أعلنت عضو المجلس السيادي رجاء نيكولا عبد المسيح في تصريح صحفي يوم السبت 13/6/2020م، أنها أجرت اتصالاً بوكيلة وزارة التربية والتعليم حول خلو جدول الحِصص التركيزية من مادة التربية المسيحية والخاص بطُلاب شهادة الأساس للعام 2020م، المقرّر بثها عبر التلفاز خلال الأيام القادمة، وقالت نيكولا ولا مناص من ألا تكون دولة المواطنة هي الأساس للحقوق والواجبات. (صحيفة الصيحة 14/6/2020م).
ما معنى أن تكون المواطنة أساس الحقوق والواجبات؟ وهل للوطن نظام ينظم هذه الحقوق والواجبات؟
إن مصطلح المواطنة الذي كثر تداوله هذه الأيام وأصبح له وجود فاعل وتأثير واضح في القوانين والفكر والثقافة والمجتمع، وإن كان هذا المصطلح بدأ يتعرض للاهتزاز فيما يشبه الأزمة، وذلك بفعل تأثيرات العولمة المُلغية لتأثيرات الحدود ولخصوصيات المجتمعات (الثقافة والفكر والعادات) والتي تستهدف إلغاء أو كسر الحاجز الوطني، حكومة واحدة للعالم يبشر بها الأمين العام للأمم المتحدة وأموال تبذل للقاح كورونا الذي بحسب متابعين يصب في الجهود نفسها، وما أموال الرأسمالي بيل غيتس التي تنفق إلا لذلك.
لفظ المواطنة لغة مأخوذ من مادة "و ط ن" لكن ليس على المعنى المصطلح عليه، وفي لسان العرب: "الوطن المنزل تقيم به وهو موطن الإنسان ومحله والجمع أوطان، وأوطان الغنم والبقر: مرابضها وأماكنها التي تأوي إليها... وطن بالمكان وأوطن: أقام، وأوطنه: اتخذه وطنا، يقال أوطن فلان أرض كذا وكذا: أي اتخذها محلاً ومسكنا يقيم فيها، والميطان: الموضع الذي يوطن لترسل منه الخيل في السباق، وفي صفته ﷺ: "كان لا يوطن الأماكن" أي لا يتخذ لنفسه مجلسا يعرف به، والموطن: مفعل منه، ويسمى به المشهد من مشاهد الحرب وجمعه مواطن، والموطن: المشهد من مشاهد الحرب، وفي التنزيل العزيز قال تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ...﴾.
فالكلمة تدور حول المكان والإقامة فيه، ولا تحمل مدلولاً اصطلاحياً يحمل قيمة تزيد عن معناها اللغوي، ومن هنا يتبين أنه لا دلالة لغوية في كلمة هذه المادة "وطن" على المعاني والدلالات التي أريد لها أن تحملها والتي نعرض لها لاحقاً.
وفي الحقيقة فإن عقول البشر وأهواءهم هي التي تحكم هذه الفكرة وتضع لها المقاييس، وانطلاقاً من هذا فإن الأفكار والعلاقات والقوانين المتعلقة بها تنتقل من وضع إلى وضع آخر ومن طور إلى طور ثان تبعاً لزيادة علم الإنسان أو نقصانه وتبعاً لحسن خلقه أو سوئه، وتبعاً لما يراه محققا لمصالحه، وقد حاول البعض أن يستخرج عن طريق القياس دلالة لغوية على جواز استعمال لفظ المواطنة بمعنى المعايشة، ورغم أن هذا الاستعمال لا وجود له في لغة العرب، بل هو محدث، فإنه بفرض وجوده أو صوابه فإنه لا يدل على المعنى الاصطلاحي الذي يراد أن يدل عليه لفظ المواطنة "الأوطان التي نتجت في القرن العشرين نتيجة لاتفاقية بين الكفار لتقسيم ما يسمى تركة الرجل المريض والمعني هنا دولة الخلافة في اتفاقية سايكس بيكو 1916م".
لكن هذا اللفظ أريد له أن يحمل بعداً فكرياً تبنى على أساسه التصورات والتصرفات في الوطن الذي يحمل اسم "دولة" ليحل محل الدين في صياغة التصورات والأفكار وإقامة العلاقات، خاصة أن هذا المصطلح ارتبطت بدايات ظهوره بتنحيته للدين في العالم الغربي النصراني الذي ظهر فيه، وتغليب مفاهيم بديلة تتنكر للدين وتعلي من قيمة الجنسية والتراب الوطني والاعتزاز به أكثر من غيره، والانتماء إلى تراثه التاريخي وعاداته وثقافته ولغته، والتي شكلت نسيجاً يحيط بالوطن حتى حولته إلى رمز يُوالى فيه ويُعادى عليه ومنه تستنبط القيم والسلوك والعادات؛ وعلى أساسه تحدد الحقوق والواجبات بعيداً عن الدين أو أي موروث فكري أو ثقافي يعارض هذه الفكرة، حيث يعمل على إذابة كل الأفكار والانتماءات العقدية والعرقية.
ورغم أن مصطلح المواطنة لم يوجد على هذه الصورة أول أمره بل أخذ يتطور وينتقل من مفهوم إلى مفهوم، بحيث لا يمكن الوقوف على تعريف جامع له، إلا أنه ينظر للمواطنة بوجه عام على أنها علاقة قانونية بين الفرد وبين الوطن الذي تمثله الدولة بسلطاتها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، حيث تنظم القوانين السائدة هذه العلاقة، والتي تقوم على أساس الانتماء لوطن واحد خاضع لنظام سياسي واحد بعيداً عن الارتباط بشيء خارج إطار الوطن سواء أكان الدين أم الثقافة أم غير ذلك، وهي علاقة اصطناعية وليست علاقة طبيعية، فهي ليست صفة لصيقة للإنسان بمقتضى إنسانيته بل هناك طرق لاكتسابها، كما أن الإنسان يمكن أن يفقدها وفق شروط وضوابط معينة؛ "إعطاء الجنسية أو الحرمان منها".
كما أن الأحكام المنظمة لهذه العلاقة قابلة للتغيير انطلاقا من إمكانية تغيير القوانين التي تضبط حدود تلك العلاقة وتبين الحقوق والواجبات المترتبة عليها "فالمواطن الجنوبي كان سودانياً والآن ليس سودانياً"!
وانطلاقا من مبدأ المواطنة يصير جميع الأفراد (المواطنون) في مركز قانوني واحد، فما يجوز لفرد يجوز لجميع الأفراد، وما يمنع منه فرد يمنع منه جميع الأفراد، ومع إيمان المسلمين بوجوب العدل مع الجميع حتى لو كانوا كفاراً محاربين كما نصت على ذلك النصوص الشرعية، لكن النصوص أيضا اختصت الكفار ساكني دار الإسلام (أهل الذمة) ببعض الأحكام التي يختلفون فيها عن المسلمين. والأخذ بمبدأ المواطنة على النحو المتقدم يعني إهدار تلك الأحكام، وبمقتضى ذلك يجوز لليهودي أو النصراني من ساكني دار الإسلام أن يكون ولياً لأمر المسلمين، وبمثل ذلك يقول كل الذين ينادون بمبدأ المواطنة، وهذا مما يتبين به تعارض مفهوم المواطنة مع الأحكام الشرعية في هذا الباب وأبواب أخرى. ولا شك أن التقيد بالأحكام الشرعية يعني عدم القبول بمبدأ المواطنة أو التقيد به؛ إذ المواطنة هي علاقة قانونية بين فرد (مواطن) ودولة مع وجود حقوق وواجبات متبادلة بين الفرد والدولة على أن يكون الوطن مصدر الحقوق والواجبات ولا شيء غيره، مع وجود المساواة بين الأفراد (المواطنين) جميعهم على قاعدة الاشتراك في الوطن وخضوع الفرد (المواطن) لأنظمة المجتمع والتقيد بها واستبعاد الدين من هذه العلاقة القانونية استبعاداً مقصوداً.
ويتبين من ذلك أن الدعوة إلى المواطنة هي في حقيقتها دعوة إلى العلمانية ولكن بمصطلح جديد!!
إن التمسك بالشريعة الإسلامية معارضٌ تماماً لمبدأ المواطنة يبين أن المراد بالمواطنة ليس ما يزعمه المروجون لها وهو حسن التعامل مع المخالف أو البر به والعدل معه ونحو ذلك من المقولات التي تملّها الأسماع، بل المراد منها تنحية الشريعة وإبطال العمل بها، وأن يحتكم الناس إلى ما يرونه ويتفقون عليه.
وأصحاب الفكر الديمقراطي لا يرون معنىً حقيقياً للمواطنة إلا في دولة ديمقراطية ليبرالية، كما أن أصحاب الفكر الاشتراكي لا يرون معنى حقيقياً للمواطنة إلا في دولة ديمقراطية اشتراكية.
والمواطنة بالنسبة للمسلمين تمثل دعوة للتفرق والتشتت والتقوقع، فيكون هناك ولاء من الفرد (المواطن) لوطنه يلتزم بقوانينه ويدافع عنه، ولا يتعدى ذلك إلى محيطه الأوسع وأمته المترامية الأطراف، لأن المواطنة مرتبطة بأبعاد جغرافية محدودة لتحقيق منافع دنيوية.
وبتبني المواطنة والدعوة إليها تزداد عوامل الانعزال بين أوطان الأمة الواحدة، وانطلاقاً من هذه المواطنة المحصورة في الوطن أفتى بعض المنسوبين للعلم "للمسلمين في الجيش الأمريكي" عندما اعتدت أمريكا على أفغانستان، بجواز الاشتراك في مقاتلة المسلمين في أفغانستان، ومن قبل ذلك بعقود في بداية القرن العشرين الميلادي قامت في مصر دعوات مناهضة لاشتراك المصريين في مساعدة إخوانهم الليبيين ضد الاحتلال الإيطالي، فالمواطنة تفرق بين أبناء الأمة الواحدة وتجعل للمشاركين في وطن المسلمين من أهل الديانات المباينة له حقوقاً ليست للمسلم من وطن آخر، مما يمثل إعلاء لرابطة المواطنة (الوطن) على رابطة الدين (الأمة).
إن الرابطة التي تربط المسلمين بعضهم ببعض في مشارق الأرض ومغاربها هي رابطة الإيمان المتجسدة في الأمة الواحدة، وليست رابطة المواطنة القائمة على أساس الوطن، فقد دلت الكثير من النصوص الشرعية التي تصل دلالتها لدرجة القطع على أن رابطة الإيمان هي التي تربط بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.، ولكن فعلياً لا يحقق هذه الرابطة إلا دولة مبدئية تحكم المسلمين بشرع الله الذي يوحدهم على اختلاف أوطانهم.
رأيك في الموضوع