بعث الله نبينا محمداً e للعالمين بشيراً ونذيراً، وجعل ما جاء به من أحكام لأنظمة الحياة كافة رحمة للناس أجمعين، يقول الله سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، فأقام الحبيب e الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة، محدداً أركانها وقواعدها وأجهزتها، ومبيناً للناس أن الأمر من بعده سيكون خلافة، فقال e: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ تَكْثُرُ قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»، فحمل الراية من بعده eخلفاؤه الراشدون، والذين جاؤوا من بعدهم، يحملون الخير والهدى في البلاد التي يفتحونها لإخراج الناس من ظلمات الكفر، إلى نور الإسلام، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
واستمر الحال على ذلك قروناً من الزمان، استطاعت فيها دولة الخلافة أن تصهر أمم وشعوب البلاد التي تفتحها في بوتقة الإسلام، وتجعلهم أمة واحدة؛ هي الأمة الإسلامية، وخلال هذه الفترة كلها التي امتدت إلى أكثر من ثلاثة عشر قرناً، كان الكفار بالمرصاد للإسلام وكيانه الجامع، الخلافة، فكانت محنة التتار، وما فعلوه بالمسلمين من تقتيل حتى صارت الدماء أنهاراً، ثم تغلبت الأمة عليهم، بل صار أغلب التتار مسلمين، وكانت الحروب الصليبية التي امتدت لقرنين من الزمان، ثم كانت الغلبة في النهاية للمسلمين، حتى أيقن الغرب الكافر أن الجيش الإسلامي لا يُهزم، فعمدوا إلى الفتن والدسائس والمؤامرات، حتى استطاعوا في خاتمة المطاف أن يهدموا صرح الإسلام، ويُسقطوا الخلافة في مثل هذا الشهر، وبالتحديد في الثامن والعشرين من رجب سنة 1342هـ، الموافق الثالث من آذار/مارس سنة 1924م، ومنذ ذلك التاريخ تم إزاحة الإسلام عن كونه دستور دولة، وتشريع أمة، ونظام حياة، على أيدي الإنجليز باستخدامهم عملائهم أمثال الخائن مصطفى كمال، وبذلك غاض الحكم بما أنزل الله وظل حكم الكفر والطاغوت وحده هو الذي يتحكم في الناس جميعاً وظل يطبق في جميع العالم إلى يومنا هذا.
لم يكن ضياع الخلافة بالأمر الهين، ولا بالحدث العادي، إلا أن الأمة كانت مغلوبة على أمرها، فأغلب بلاد المسلمين كانت تحت الاستعمار، والبقية في أيدي عملائهم، وقد عبر أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته (رثاء الخلافة)، عن هذا الحدث الجلل والمصاب العظيم في حينه قائلا:
كفنت في ليل الزمان بثوبه *** ودفنت عند تبلج الإصباح
شيعت من هلع بعبرة ضاحك *** في كل ناحية وسكرة صاح
ضجت عليك مآذن ومنابر *** وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة *** تبكي عليك بمدمع سحاح
والشام تسأل والعراق وفارس *** أمحا من الأرض الخلافة ماح
نعم لقد مُحيت الخلافة من الأرض وتسيّد الأرض المبدأ الرأسمالي الباطل، فعم الظلم واستشرى الفساد، وصار المسلمون يعيشون الذل والهوان، في ظل دويلات كرتونية هزيلة، وظيفتها تنفيذ مؤامرات الكفار المستعمرين على الأمة، إلا أن الأمة اليوم لم تعد كما كانت قبل عقدين من الزمان فقد وصلت إلى قناعة بفساد الواقع الذي تعيشه، وأيقنت أن لا خلاص إلا بالإسلام، فصارت تتوق إلى الخلافة، فجن جنون الغرب وعملاؤه، وصاروا يحاربون الإسلام صراحة، حتى لا تقوم له دولة.
وإننا إذ نحيي ذكرى هدم دولة الخلافة، إنما نستنهض همم المسلمين، ليعملوا لإعادتها خلافة راشدة على منهاج النبوة، والتي بغيابها تجرأ الكفار، فاحتلوا بلاد المسلمين، بل مكنوا يهود من أرض الإسراء والمعراج فلسطين؛ التي حررها من دنس الصليبيين القائد صلاح الدين الأيوبي. وبغياب الخلافة نصّب الكافر نفسه الراعي لشؤون المسلمين، فمنع حرائر المسلمين من اللباس الشرعي وأجبرهن على العري والتبرج. وبغياب الخلافة أُفقرت الأمة ونُهبت ثرواتها وأدخلها الكافر المستعمر في صراعات تخدم مصالحه فيتقاتل المسلمون فيما بينهم، بمؤامرات ينفذها الحكام الروبيضات، فتهدر الثروات وتنتهك الأعراض وفي كل ذلك إضعاف للمسلمين، إلا أنه، وكما ذكرت آنفا فإن الأمة بدأت تصحو وتتلمس طريق الخلاص من الكافر المستعمر وعملائه، وترفض الظلم، وتخرج مطالبة بسقوط عروش الطغاة، وهذا بشير خير بأن الأمة التي ظن الكافر أنها قد تودع منها ما زالت حية. ولكن الأمة تحتاج إلى الوعي المستنير الذي يدفعها إلى العمل الجاد الذي ينهض على أساسها، وليس ذلك إلا الإسلام والعمل من أجل إعادته للحياة وأنظمتها وإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
فالخلافة هي وحدها القادرة على إخراج الأمة من حياة الذل والصغار، إلى حياة العز والرفعة، في ظل أحكام رب العالمين، وهي فرض هذا الزمان، بل هي تاج الفروض، كما قال بعض الفقهاء، لأن كثيراً من الأحكام لا تقام إلا بوجودها، فلا يموت أحدنا في هذا الزمان ميتة جاهلية، لعدم تلبسه بالعمل من أجل إقامة الخلافة، يقول النبي e: «...وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِى عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». ثم إن الخلافة هي التي تجمع شتات الأمة في دولة واحدة، وترعى شؤون الناس بأحكام الإسلام، وهي حامية الأعراض، وحافظة الحدود من الانتهاك، وهي التي يعز بها المسلمون، يقول الفاروق عمر رضي الله عنه: (نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله)، وإن الله سبحانه وعد عباده المؤمنين بالاستخلاف في الأرض، متى ما التزموا بأحكامه وأنظمته، قال تعالى:﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾.
وكذلك بشرى الحبيب عليه الصلاة والسلام بعودة الخلافة، بعد هذا الملك الجبري الذي تعيش الأمة آخر أيامه إن شاء الله فقال عليه الصلاة والسلام: «... ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ» ثُمَّ سَكَتَ. فلنكن من جنود الخلافة التي بشر بها الحبيب، فنفوز بالعيش الكريم في الدنيا ونُرضي الرحمن في الدنيا والآخرة. فلنسارع إلى العمل الذي يدخلنا في جنات عرضها السماوات والأرض، إلى العمل مع العاملين من أجل إعادتها خلافة راشدة على منهاج النبوة.
.
رأيك في الموضوع