بارك الله أرض فلسطين، فجعلها منزلاً للخير بشتى صنوفه وأشكاله، فحلت البركة في خصبها وشجرها، وثمرها ومائها، وكانت البركة فيها بأن جعلها الله مهبط الوحي، وأرض الرسالات ودار الأنبياء.
ومن ينظر في التاريخ يجد أن فلسطين كانت محل اهتمام الأمم جميعاً، وقد شكلت بؤرة صراع دائمة بين مختلف القوى العالمية على مر العصور، لما تملكه من موقع استراتيجي من الناحية الجيوسياسية، كما أنها ارتبطت بالكثير الكثير من أصحاب الديانات المختلفة وهو ما يشكل البُعد الروحي لها.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ويقول: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾، وبتتبع سيرة الأرض المباركة مع الأمم السابقة، نجد أن بيت المقدس كان دائماً يمثلُ منحةً إلهيةً، وهديةً ربانيةً لعباد الله المؤمنين الصادقين المخلصين، وأرض النجاة من الظالمين، وملجأ المستضعفين المضطهدين، يقول الحق تبارك وتعالى حكاية عن إبراهيم ولوطٍ عليهما السلام ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾، فيها أقام داود وسليمان عليهما السلام ملكهما بالحق والعدل ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾.
ولما تنكب بنو إسرائيل عن أمر ربهم وعصوا رسوله موسى عليه السلام ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه حين قال لهم: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ فتمردوا وأساءوا الرد ولم يلتزموا أمر الله ﴿قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ فعاقبهم الله بالحرمان وجعلها محرمة عليهم وقدر عليهم التوهان في الأرض ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾، ولكنهم حين التزموا إيمانهم وأحسنوا طريقتهم وتعلقوا بالله وتوكلوا عليه وصبروا على طاعته استحقوا نصر الله فقال سبحانه: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا﴾.
ولما غيرت الأمم وبدلت في دين الله وتنكبت الطريق وزاغت عن الحق كانت سنة الله في التبديل والتحويل جارية، فقد جاء الإسلام بديلاً عن تلك الديانات وهو الحق وصراط الله المستقيم، وجعل الله أهله أهلاً لاستحقاق الأرض المباركة فكان المسجد الأقصى قبلتهم الأولى، وثالث المساجد التي يشدوا الرحال إليها مهما كلفهم ذلك من العناء والمشقة والبذل والتضحية من أموالهم وأنفسهم.
وقد وثق الله عز وجل علاقة المسلمين بالأرض المباركة ومسجدها الأقصى في قرآنه فقال سبحانه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، فتعلق المسلمون بها في صلاتهم وعبادتهم حتى مع تحول قبلتهم إلى المسجد الحرام بمكة، وتحركت دولة الإسلام منذ أيامها الأولى لتبسط سلطانها عليها وضمها إلى سلطان الإسلام حتى تحقق لها ذلك على يد الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد حافظ المسلمون على ارتباطهم ببيت المقدس وحرصوا على توثيق علاقتهم بها على طول الزمان وعرضه وعلى اختلاف حكامهم.
وأما ما كان من تفلت وضياع وسلب أعدائهم للأرض المباركة من بين أيديهم فإنما بسبب تنكبهم وزيغهم عن الطريق وضعف جذوة الإيمان في نفوسهم، ولكنها لحظات عابرة سرعان ما كان يستعيد المسلمون عافيتهم ويصححون مسارهم فيستعيدوها ويردوها إلى ديار الإسلام كما فعل قطز حين رد المغول عن بلاد المسلمين وصدهم عن بيت المقدس، وكما فعل صلاح الدين وآباؤه من قبل نور الدين محمود وعماد الدين زنكي، فحررها وطهرها من الصليبيين، وقد استعد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني أن يضحي بنفسه كي يحافظ عليها وتبقى أرضاً إسلامية وجزءاً أصيلاً من ديار الإسلام.
وقد صدق القائل: "إن أردت أن تعرف حال الأمة فانظر إلى حالها مع بيت المقدس" فبقدر قيام الأمة على أمر الله وتحملها للأمانة كانت أهلاً لمعية الله واستحقاق نصره، لذلك كان عمر بن الخطاب يوصي قادة جنده حين يخرجون لملاقاة عدوهم فيقول: "اتقوا الله فإنما تنصرون بإيمانكم ومعصيتهم لله، فإن عصيتم تساويتم وكانت الغلبة للقوة"، وهو ما يفسر كل لحظة من لحظات التاريخ التي استطاع الكفار فيها التسلط على بلاد المسلمين وبخاصة فلسطين، وتمكنهم من انتزاعها من أيديهم مصداقاً لحديث رسول الله e الذي جاء فيه: «وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ» (سنن ابن ماجه)، وهو إجابة عن السؤال المطروح دائماً لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من تفرق وتمزق وتشرذم، وتسلط للكفار المستعمرين على بلادنا، وتغلغل نفوذهم فيها، ونهبهم وسلبهم لثرواتنا وخيراتنا؟؟.
منذ تخلت الأمة عن إسلامها بوصفه نظام حياة، وطريقة عيش للفرد، والمجتمع والدولة، واستبدلت به أنظمة بشرية فاسدة من رأسمالية واشتراكية، ومنذ استبدل المسلمون برابطة الأخوة الإسلامية ووحدة الأمة روابط الوطنية والقومية، واستُبدلت بنظام الإسلام السياسي الخلافة أنظمة سياسية علمانية ودول قطرية تابعة في وجودها للكافر المستعمر، منذ ذلك الحين والأمة في ضياع وتوهان ترتب عليه تقسيم بلاد المسلمين وضياع فلسطين وزرع كيان يهود فيها بمددٍ من الغرب الكافر، ولا زالت الحال كذلك إلى يومنا هذا، فهل إلى خروج من سبيل؟؟.
إن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها وهو الإسلام، ولا يكون ذلك حتى تقوم للإسلام دولة تحقق وجوده وإرادته، وتعبر عن نظامه وحضارته، وترفع يد الاستعمار وتقطع نفوذه، وتوحد طاقات الأمة وتلبي حاجاتها، وتعطشها للوحدة والعزة، تحكم بالعدل؛ تنصر المظلوم وتنتصر من الظالم، والرهان الأكبر في ذلك على أهل القوة والمنعة، بعد أن أصبح ظاهراً للعيان بأن مطلب الأمة هو تحكيم الإسلام وتطبيقه في حياتها، أصبح الرهان والأمل معقوداً على تلك الجيوش المكبلة في الثكنات، نراهن عليها في التحرك والانضمام إلى صفوف المخلصين من أبناء الأمة العاملين لإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، لتقوم بدورها في نصرة دينها وأمتها، ثم لتستكمل دورها في دحر عدوها، وتحرير الأرض المباركة فلسطين من رجسهم ودنسهم فتطهرها كما فعل عمر الفاروق من قبل، وكما فعل قطز وصلاح الدين رحمهما الله.
وإننا إذ نحمل لكم أيها الإخوة من الضباط والجنود دعوة الخير، ونحب لكم عظيم الأجر نسأل الله أن يكون فيكم رجل مؤمن مخلص يقذف الله في قلبه نور الهداية الذي أشرق له قلب سعد بن معاذ رضي الله عنه، فنصر رسول الله e، فأقام دولة الإسلام الأولى، فتعيدوا سيرة الأخيار من الأنصار، فتنصروا حزب التحرير لبناء دولة الخلافة الثانية التي بشر بها نبيكم e «... ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»، ونناديكم بقول ربكم ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.
بقلم: خالد سعيد
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين
رأيك في الموضوع