فوجئت أمريكا بثورات العالم العربي، وكانت ثورة الشام من أشد هذه الثورات إرباكا لأمريكا إذا إنها هددت نفوذها في سوريا وكادت أن تطيح بعميلها بشار، وكان أشد ما أرعبها هو الحالة الإسلامية للثورة التي عبر عنها أهل الشام.
تحركت أمريكا ودعمت عميلها بالمكر والخداع وإرسال المبعوثين من مثل الدابي وكوفي عنان والأخضر الإبراهيمي وأمنت المهل للنظام عله يستطيع القضاء على ثورة الشام، لكنه فشل وتعاظمت الثورة، فعملت أمريكا على إجهاضها بوسائل عدة؛ منها مواجهتها بالقوة العسكرية ومنها احتواؤها والسيطرة عليها سياسيا بواسطة عملائها ممن يسمون بأصدقاء الشعب السوري، ومنها إيقاد نار الاقتتال الداخلي بين الفصائل.
- أما الوسيلة الأولى فإن أمريكا أوعزت لإيران بإدخال حزبها في لبنان للقتال إلى جانب النظام وجلبت المليشيات الإيرانية والأفغانية والعراقية لسد النقص في المقاتلين لدى النظام، ولكن كل تلك القوى لم تستطع أن تتقدم على الثوار أو أن تغير في ميزان القوى العسكري، فجلبت أمريكا روسيا لاستخدام القوة المفرطة والتي استطاعت أن تدعم النظام والمليشيات الطائفية وأحرزت تقدما في عدد من الجبهات في الجنوب والشمال.
- أما الوسيلة الثانية وهي الأخطر على الثورة فهي مسلسل الاحتواء عبر الدعم المالي المسموم من الدول الداعمة العميلة لأمريكا والتي مارست الضغوط والتضليل والخداع على الفصائل لإيقاعها في فخاخ الحل السياسي ومسلسلات التصفية للثورة، بدأ هذا المسلسل بهدنة كفريا-الفوعة-الزبداني التي كانت أول خرق في جدار مفاهيم الثورة التي ينبغي أن لا يتطرق إليها التفكير في مهادنة النظام، ثم توالت الهدن والمفاوضات التي كانت أخطر عمل ضد الثورة خصوصا أنه يدعى إليها بعد قصف عنيف وتقدم للنظام ومليشياته في بعض المناطق مما أوجد حالة من الخدر والشلل في كثير من الجبهات خصوصا درعا وحول دمشق وأرياف حمص وحماة؛ مما مكن النظام ومن معه من استخدام فائض القوة لديه في حرق حلب وإدلب، كما تمكن النظام من خلال الهدن إلى إحكام سيطرته على كثير من المناطق بالحصار والتجويع، وقد ترافق مع هذه الهدن والمفاوضات جو من الركون والدعة وإيثار السلامة لدى كثير من المناطق التي أصبحت تستجيب لفخاخ المصالحات التي أدت إلى تهجير الثوار فيها إلى إدلب وإعادتها إلى حضن النظام، وكان آخرها حصار حلب وتهجير أهلها منها، وقد تبع ذلك هدنة لتبريد الأجواء ودعوة إلى مؤتمر أستانة لحصد نتائج تلك المؤامرات.
إن مؤتمر أستانة وضع القواعد الصلبة لتصفية الثورة بالضربة القاضية - لا سمح الله - لأن هذا المؤتمر الذي سيقت إليه أغلب الفصائل وجُلبت جلبَ المهزوم المعتقل دون قيد أو شرط وهي لا تدري ما سيطلب منها وما عليها أن توقع عليه رغما عنها بضغط من النظام التركي الذي كلفته أمريكا بتصفية الثورة سياسيا عندما عجزت الآلة العسكرية عن القضاء عليها.
إن مما يلوح في أفق الأستانة هو أمر خطير وشر مستطير حيث سيفرض على الفصائل أمرين:
الأول: هو أن تشكل جيشا وطنيا يقسم الثورة بين معتدل يقبل الحل السياسي الأمريكي، وإرهابي رافض لهذا الحل، مما يوجب على المعتدلين قتال المتطرفين الذين يعرقلون الحل السياسي، وهذه أخطر فتنة للقضاء على الثورة في الشمال والتي تشكل بيضة القبان والحجم الأكبر من مناطق الثورة، وقد ظهرت بوادر هذا الاقتتال فيما وقع بين جبهة فتح الشام وجند الأقصى من جهة وحركة أحرار الشام من جهة أخرى ومحاولات جر بقية الفصائل إلى هذا الاقتتال الذي هو أخطر الوسائل للقضاء على ثورة الشام.
وبعد أن يثبت هذا الجيش (وطنيته) بقتال المسلمين الرافضين للحل السياسي الأمريكي سيدفعه هذا الاقتتال ويجعله أكثر قابلية لترميم جيش النظام والاندماج معه في جيش واحد!
والثاني: الإقرار بتشكيل حكومة وحدة وطنية مع النظام والقبول ببقاء بشار كما يصرح الأتراك لمرحلة انتقالية أو لنهاية ولايته حسب ما تؤدي إليه المفاوضات على تفاصيل هذه الحكومة التي ستكون للطوائف من نصيرية ونصارى ودروز وإسماعيلية وأكراد النصيب الأوفر فيها، وحيث سيكون العلمانيون من أبناء السنة أصحاب التمثيل الأكبر للسنة، فيما قد يعطى من يسمون أنفسهم إسلاميين يقبلون بالحل السياسي بعض المناصب الهزيلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
هذه هي أبرز سمات مؤتمر أستانة، لينتقل الأمر بعد ذلك إلى جنيف لاستكمال التفاصيل الدقيقة التي يكمن فيها الشيطان وسيكون الصراع فيها على مناصب الدرجة الأولى والثانية من وظائف الدولة السياسية والعسكرية وصولا إلى إقرارها بميثاق دستوري يضعون آليات صياغته.
ومن مسلسلات التآمر على ثورة الشام خلق بؤر صراع لتفتيت قوى الثورة وإشغال الثوار فيها في صراعات بينية وصناعة أدوات صراع أخرى، ومن ذلك الاقتتال بين فصائل الثورة وتنظيم الدولة ثم دعم الأكراد وإبرازهم كقوة مستقلة انفصالية وخلق مشاكل لتركيا التي استدرجت مؤخراً وزجت في هذا الصراع بحجة الحرب على (الإرهاب) لقتال تنظيم الدولة والتنسيق مع الجيش الروسي والسوري في هذا القتال واستخدام جزء كبير من فصائل الثوار في هذا القتال الذي لا يخدم إلا أمريكا والنظام وأعداء الإسلام تنفيذا للمشروع السياسي الأمريكي بالحفاظ على النظام وأجهزته الأمنية والعسكرية وترميمها وتأهيلها حفاظا على نفوذ أمريكا بإبقاء سوريا دولة علمانية تحت النفوذ الأمريكي.
إن هذه المسلسلات التآمرية على ثورة الشام للقضاء عليها ومنعها من إنتاج حكم إسلامي يرضي الله سبحانه وتعالى ويحقق مصالح الأمة الإسلامية، إن هذه المسلسلات كانت أخطر من العمل العسكري لأنها جاءت من أنظمة بلدان إسلامية تدعي الإسلام وهي تحاربه، ولكن رغم كل هذه المؤامرات فإن ثورة الشام لا زالت وستبقى عصية على إجهاضها من أعدائها ومن المتآمرين عليها لأن هذه الثورة أصبحت حالة جهادية وفكرية راسخة في وعي الأمة يتغلغل فيها مشروع سياسي من صلب عقيدتها خلافة على منهاج النبوة، وما الحل السياسي الأمريكي إلا محطة من محطات الصراع في هذهِ الثورة مع هذا النظام الدولي بقيادة أمريكا سرعان ما سيسقط لتنطلق الأمة بثورتها مستمرة حتى يأذن الله بنصره، وما ذلك على الله بعزيز.
بقلم: محمد سعيد الحمود
رأيك في الموضوع