يظن الكثيرون أن الوجود الغربي في بلاد المسلمين يقتصر على الوجود العسكري أو الأمني أو حتى على صعيد حاكم عميل... وقلة هم الذين يدركون حقيقة الوجود الغربي وحجم نفوذه في بلاد المسلمين سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو التعليمي أو الثقافي أو غير ذلك.
فبعد أن تمكن الاستعمار الغربي العسكري من هدم دولة الخلافة وتقطيعها إلى دويلات قام الاستعمار بنفسه وبروية تامة بتشكيل الحكم المحلي في هذه الدويلات التي أنشأها في البلاد، وبما أن هذا الاستعمار كان يملك كل الوسائل للتغيير لأنه يحتل البلاد والعباد ويسيطر على الأمن وشرايين الاقتصاد فإن الفئة التي برزت باعتبارها فئة النخبة بين أبناء المسلمين التي تطلب الحكم وتنافس عليه كانت هي ذاتها الفئة التي يريدها الاستعمار لتعينه على حكم البلاد، فكانت علاقات هذه النخبة مع الاستعمار علاقة العبد بالسيد وعلاقة الذليل بالقوي المنتصر، وقد ترسخ ذلك عبر نصف قرن، فكان جيل من هذه النخبة المستسلمة التي رضعت الفكر الغربي يشيخ ويسلم جيلاً جديداً ويرضعهم حب المستعمرين والولاء لهم منذ نعومة أظفارهم...
ومن المهم ملاحظته كذلك أن سبات الأمة الإسلامية قد استمر دون أن تفيق من غفوتها لا سيما وأن الاستعمار كان قادراً على منع أي عمل إسلامي مخلص من البروز إلى السطح، وتأخرت الحركات الإسلامية في البروز، وأصبح العمل السياسي على أساس الإسلام لافتاً للنظر في خمسينات القرن المنصرم فقط، وأما قبل ذلك فقد كان عملاً خجولاً تنقصه الرؤية الواضحة والأهداف الإسلامية الجلية، فالمسألة ليست مسألة إصلاح المجتمع من وجهة النظر الإسلامية، وإنما المسألة هي غياب الإسلام ووجوب إعادته إلى المجتمع بما في ذلك الحكم، وهذه الأهداف لا تؤثر في المجتمع إلا إذا كانت واضحة جلية وتطرح بشكل صريح لا يقبل التأويل، وبغير ذلك لا يمكنها أن تتحول إلى قوة دافعة في المجتمع.
وفترة السبات تلك قد مكنت الاستعمار من بناء رجالاته المحليين بكل أريحية في غالب المناطق وفي كافة المجالات. فبالإضافة إلى حاكم البلاد العميل فقد أسس شريحة لا بأس بها من المفكرين والإعلاميين والشخصيات المرموقة ورؤساء الأموال. وقد ركز المستعمرون من جهة على الجهاز الثقافي التعليمي المتعلق بالمدارس والجامعات والمساجد وعلى الإعلام بكافة أنواعه من جهة أخرى. وربط النظام الاقتصادي في بلدان العالم العربي والإسلامي بنظام البنوك والنظام الربوي الذي جعل الدول الاستعمارية متحكمة بكل مفصل صغير وكبير في المجال الاقتصادي. ولقد ربط المستعمر بلاد المسلمين بسياسات عالمية وعقود واتفاقيات تبقي البلاد خاضعة لأمره ولا تحيد عن السياسات التي يقدرها هو في بلداننا من خصخصة واتفاقيات الجات والسوق الحر والتعاون الأمني وغيرها وغيرها.
رجالات بنيت بكل أريحية وفرق عمل شكلت في كل مجالات ومفاصل الحياة، صنعت على عين الغرب لتمكينه من إبقاء قبضته على شرايين الحياة في عالمنا العربي والإسلامي. إن أهمية إدراك هذا الأمر يتعلق بالعمل لتغيير الأوضاع في العالم الإسلامي، فمن لم يدرك واقع نفوذ الدول الغربية فإنه ليس فقط لا يدخل في حسابه تحرير البلاد الإسلامية من نفوذ تلك الدول بل غالبا ما يقع فريسة سهلة لتلك الدول، بل إنه يكون من أدواتها من حيث يشعر أو لا يشعر...
وأبسط مثال للتدليل على ذلك هو ما حصل لحركة حماس. فعندما نجحت في الانتخابات التشريعية سنة 2006م وحققت فوزاً كاسحاً وقامت بتشكيل الوزارة بكاملها، ولم يبق من حكم لرجال السلطة إلا الرئاسة، ولكن المدقق يرى بأن رجال السلطة هم الذين خططوا لتسليم حركة حماس الحكم اسماً لا فعلاً في خطة أوروبية أمريكية ويهودية في محاولة لجر حماس للعمل السياسي بدل العسكري لتأمين دولة يهود. وبقيت حركة حماس في السلطة أكثر من عام دون أن تمتلك حكماً فعلياً على الرغم من انحسار السلطة القديمة وخسارتها الانتخابات خسارة كبيرة وفقدانها للمناصب الوزارية، أي أنها قد خسرت بإرادتها وتخطيطها وجعلت ذلك مصيدة لغيرها، فخسرت التشريعي ومجلس الوزراء ولكنها لم تخسر الحكم، وهنا يجد المدقق بأن الحكم الفعلي مضبوط في نظام، فهذا النظام تمكن من إحراج حركة حماس بقوة أمام الشعب الفلسطيني في مسألة دفع الرواتب وشد رجاله من خلف ستار من عزيمة المطالب الدولية لحماس بالاعتراف بكيان يهود، وشعرت حماس بأن الاعتراف بكيان يهود والموافقة على تفاهمات أوسلو هو الذي يكفل لها البقاء في الحكم وإلا يجب أن تغادر طواعية بسبب إنهاك الشعب الفلسطيني اقتصادياً أثناء الحصار المشهور، فنادت حماس بإقامة دولة فلسطينية على أراضي 1967م وهذا ينافي ميثاقها، وجلس زعيمها إسماعيل هنية خلف محمود عباس في مؤتمر القمة العربية في مكة الذي أعاد تبني المبادرة العربية للسلام. وكادت حماس أن تعلن اعترافها بكيان يهود لأن الاعتراف الضمني من حيث الواقع هو كالاعتراف الصريح، ولكنها غير قادرة أن تبرر لأتباعها ذلك لشدة مخالفته للإسلام فظلت تتمسك بالاعتراف الضمني غير الصريح القابل للتفسير على وجهين؛ وجه لأتباعها ووجه للغرب. والمسألة لم تنته بسيطرتها على غزة وطردها للسلطة منها إذ هذه مسألة مختلفة تماماً، ونكتفي من هذا المثال بأن النظام السياسي في أي بلد يستحيل على أي شخص أن يغيره، فها هي حركة قد فازت في الانتخابات وقد وجدت نفسها في مؤتمر القمة في مكة وفي طرحها لدولة على أراضي 1967م أسيرة للنظام السياسي الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية بالاتفاق مع رئيس وزراء كيان يهود رابين والذي بموجبه تسلمت بعض الأراضي الفلسطينية.
بقلم: د. فرج ممدوح
رأيك في الموضوع