تجاوز الحديث عن الخلافة الراشدة مرحلة التذكير بواجب من الواجبات الشرعية التي قصر المسلمون في فعلها وأدائها، وانقطع الحديث عنها بوصفها أمنية من الأماني، فقد كان حملة الدعوة يتهمون فيما سبق بأنهم يحلمون بعودة الخلافة التي فات وقتها، وانقضى زمانها، وأنهم كمن يحرث في البحر، هكذا كان الحديث عن الخلافة بين واثق بوعد ربه سبحانه داعٍ لتطبيق الحكم الشرعي كما أنزل، وبين الغرقى في الواقع الذين لا يبصرون إلا الوحل الذي هم فيه غارقون!
نعم تجاوز ذلك كله وأضحى الحديث عن الخلافة حديثا عن الخيار الوحيد للأمة الإسلامية، بل الخيار العملي الوحيد للأمة الإسلامية، وأصبح الحديث عنها حديثا عن غائب قد آن قدومه، بل حاضر يتوقع ظهوره، وانتقلنا من حالة التمني إلى حالة الترقب، وكان الأمل من قبل مرتبطا بالإيمان بوعد الله سبحانه وببشرى نبيه e ارتباطا مطلقا على الرغم من الآلام والمآسي، وبُعد الناس عن الإسلام وعن السعي لعودة السلطان للإسلام، أما الآن فإن الأمل مع شدة ارتباطه بوعد الله سبحانه فقد أصبح له دلائل تدل عليه ومؤشرات تشي بقربه، فلم يعد إيمانا بأمر غيبي مطلق، كمن يبشر الناس بالغيث والشمس ساطعة والسماء صافية ليس فيها غيمة أو سواد، وإنما كمن يبشرهم بالغيث وقد تلبدت السماء بالغيوم، واسودّ الأفق، فلا يختلف اثنان أن المسألة مسألة وقت حتى يفرغ الغيم ما أثقل به!
أما الدلائل التي تدل على أن الخلافة على منهاج النبوة قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى فمنها على سبيل المثال لا الحصر:
- انتقال الخلافة من كونها مطلبا لحزب أو فئة من المسلمين إلى كونها مطلبا للجمهور العريض من الأمة الإسلامية، فقد كانت الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة العلامة البارزة لحزب التحرير، فلا تذكر الخلافة إلا ويذكر حزب التحرير، ولا يذكر حزب التحرير إلا وتذكر الخلافة، فالخلافة وحزب التحرير توأمان لا يفترقان، إلا أن الدعوة لقيام الخلافة الآن لم تعد محصورة في حزب التحرير وشبابه، بل أصبحت دعوة سائرة في الأمة كلها، ومطلبا لمعظم شبابها، وانتشار الفكرة هذا الانتشار الواسع مؤذن بقرب احتضان الأمة لها الاحتضان الحقيقي!، ويدل على أن فكرة الخلافة قد تركزت في الأمة الإسلامية تركزا أوشك على الإنتاج، ظهور محاولات لإعادة توجيه هذا التركز وتشتيته، فبعد إخفاق دعوى تنظيم الدولة بإعلان خلافتهم المزعومة، وظهور زيف الدعوى، بدأ عملاء أمريكا بمجاراة الإحساس الكامن في الأمة الإسلامية، على وجه مختلف هذه المرة فقد (انتقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حالة التشرذم والنزعات المذهبية والعنصرية التي يشهدها العالم الإسلامي، داعياً إلى وحدة الصف ونبذ الخلافات. وقال أردوغان، في المؤتمر التركي - العربي للتعليم العالي الذي عقد في إسطنبول، الخميس، مستنكراً "دائما نتحدث كأتراك وعرب، أنا أحزن لذلك، هناك الجامعة العربية (...) هل ننشئ بدورنا الجامعة التركية؟!! فهناك منظمة التعاون الإسلامي من جهة، ومن جهة أخرى الجامعة العربية". وتساءل مستنكراً "لماذا نقول الجامعة العربية ولا نقول الجامعة الإسلامية؟!"، مشدداً بالقول "لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، إلا بالتقوى". ولفت أردوغان أنه "لا يمكن تجاهل الأضرار التي خلفها الاستعمار في المنطقة"، مضيفاً بالقول "سنفضح نفاق أولئك الذين يستكثرون على شعوب المنطقة الديمقراطية التي يعتبرونها حقا لرعاياهم، إلا أنه في الوقت نفسه ينبغي علينا مراجعة ذاتنا، والقيام بنقد ذاتي".) (الأناضول 29/4/2016)، والدعوة إلى الجامعة الإسلامية دعوة قديمة نشأت مع سقوط دولة الخلافة لصرف الأنظار عن الخلافة، وها هو الزمان يعود بنا لتعود الدعوة للجامعة الإسلامية في الوقت الذي بدأت فيه الدعوة للخلافة بالصعود، وهذه المرة ليست كتلك لأن الخلافة في ذلك الوقت كانت على وشك الزوال أما الآن فهي على وشك القيام بإذن الله!
- ومن الدلائل على قرب قيام دولة الخلافة ثبات المسلمين في أرض الشام المباركة، على مطلب تحكيم الشريعة، فعلى الرغم من كل وسائل التآمر الخبيث على ثورة الشام، وبالرغم من الإبادة الممنهجة للمسلمين في الشام، ومن المحاولات الدموية لإخضاع المسلمين في الشام للمطالب الأمريكية إلا أنه ما زالت حناجر المسلمين في الشام تصدح من تحت ركام الدمار ومع كل شهيد يزف بأنهم يريدون تحكيم شرع الله وشرع الله وحده فقط، وقد ظهر ذلك في المظاهرات التي خرجت في فترة الهدنة المزعومة، كما ظهر ذلك جليا في مطالب الثوار بشكل عام حتى من سار منهم في ركب أمريكا والأذناب لا يجرؤ أن يطالب بغير شرع الله، وإن فعلوا ذلك لا يفعلونه إلا ليّا بألسنتهم، وبمتشابه القول لا بصريحه، وهذا الاستقرار على المطالبة بالحكم بالإسلام على الرغم من القتل والتدمير يصيب أمريكا بالغيظ، لأنها تدرك أن القضية في الشام ليست قضية حركات ثورية مسلحة وإنما قضية أمة تختار طريقها باتجاه الإسلام حيث لا يبقى لأمريكا والغرب الكافر بعده نفوذ.
- ومن الدلائل على قرب الخلافة على منهاج النبوة، إفلاس العالم الغربي بأكمله، إفلاسا فكريا تاما، حيث سقط المبدأ الرأسمالي بكافة نماذجه ونظرياته، وانكشف عواره وعجزه، ولم يعد قادرا على إعادة التكيف مع الوقائع، وبلغ به الأمر أنه لم يعد ينفع فيه الترقيع، ففي السابق كان النظام الرأسمالي يلجأ للترقيع والتحسين حتى من غير بنيته وجنسه، مع المحافظة على جوهر النظام الرأسمالي ودعائمه، وهذا كان حاله في معظم الأزمات التي يواجهها، ولكن ما ظهر في الأزمات الأخيرة التي تعصف بالعالم أن هذه الأزمات عصفت ببنية النظام الرأسمالي الأساسية، وليس هذا متعلقا بالجانب الاقتصادي وحده، وإن كان أظهر شيء فيه، بل يتعلق بالفكر الأساسي الذي يقوم عليه المبدأ الرأسمالي في مجمله، فالأزمة الاقتصادية التي ما زالت تعصف بالعالم حتى الآن يكاد يجمع المختصون أنها أزمة نظام وليست أزمة مالية عابرة ولا تتعلق بالسيولة النقدية أو بالتضخم، كما أن العالم الغربي يشهد أزمة أيديولوجية نتجت عن أعداد اللاجئين الكبيرة التي بدأت تجتاح أوروبا، فعلى الرغم من نشأة المبدأ الرأسمالي على أساس الحل الوسط بين رجال الدين والفلاسفة، حيث قام على أساس فصل الدين عن الحياة وفصل الدين عن الدولة، حيث من المفترض أن الهوية الدينية للأفراد ليست محل نقاش أو بحث بحسب الأساس الذي يقوم عليه المبدأ الرأسمالي، إلا أن هذا الأساس تهاوى مع كثرة اللاجئين المسلمين الوافدين إلى أوروبا، وسقط مفهوم الحرية الدينية الذي يقوم عليه المبدأ الرأسمالي، وهذا مؤذن بحمد الله بزوال النظام الرأسمالي واندثاره!
- عدم استقرار الأوضاع في العالم الإسلامي حتى في البلاد التي تم التحايل فيها على الربيع العربي وتغيير وجوه بوجوه، فعلى الرغم من تجاوز هذه البلاد أزمة الربيع العربي الأولى إلا أن الغرب الكافر لم يهنأ حتى الآن بالنصر، ولم تعد الأمور إلى ما كانت عليه من قبل، ففي مصر لم يستطع نظام السيسي أن يجلب الاستقرار لأمريكا في مصر، وبقي النظام كالبطة العرجاء، تتزايد يوما بعد يوم أسباب الثورة عليه ويحتقن البركان تحته، وهذه المرة لم تعد الأوراق التي تم التلاعب فيها بالناس خفية، فلا أدعياء الإسلام ولصوص المواقف مستترون ولا النظرة للعسكر كما هي، وكذلك في تونس فقد انكشفت الأقنعة وظهر جليا أن نظام بن علي عاد بأيدي المتسلقين على الثورة، والاحتقان الذي ولد الانفجار في السابق يزداد سخونة عن سابقه، أما ليبيا واليمن فالصراع الدموي بين الغرب الكافر من خلال الوكلاء والعملاء يزداد سخونة يوما بعد يوم، ومع سخونته بدأت تتكشف الأوراق للمسلمين وأصبح اللعب على المكشوف، وهذا كله مؤذن بعودة الأمة الإسلامية إلى ربها ودينها ومنهج نبيها، ومن اصطلى بنار التهوّك لن يقبل بعدها إلا بالمحجة البيضاء.
إن الدلائل والمؤشرات التي تشير إلى قرب عودة دولة الخلافة على منهاج النبوة تحقيقا لوعد الله سبحانه وبشرى نبيه e دلائل كثيرة قد تخفى على البعض ممن انغمسوا في الواقع الفاسد، فلا يبصرون الوقائع إلا من خلاله، وحالهم كحال من يرقب عقرب الساعة فلا يستطيع لمح حركته فيظن أنه واقف مكانه لا يتحرك، فيفوته الوقت وتضيع منه الفرصة، والأمة الإسلامية قد مرّ عليها أحداث عظام، وتجاذبتها فتن كثيرة، ومع ذلك فإن من يرقب حركتها من يوم سقطت دولة الخلافة العثمانية إلى يومنا الحالي يرى غير شاك بأنها وإن كانت بعيدة في أول أمرها عن دينها ومنهج نبيها إلا أنها الآن قد عادت لتقترب منه من جديد، وبوادر صحوة الأمة الإسلامية من غفوتها ظاهرة للمبصرين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون!
رأيك في الموضوع