اعترف وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في تصريح له - خارج عن المألوف - بأنّ الصراع في سوريا في نواحٍ عدّة قد بات"خارجاً عن السيطرة "، وقال بأنّه-وعلى الرغم من بذل الولايات المتحدة للكثير من الجهود - لحل الصراع إلاّ أنّ "الوضع أصبح هشّاً".
إن كيري هذا الذي يكاد يقتصر عمله الدبلوماسي الخارجي على سوريا، والذي يعمل ليل نهار مع سائر الأطراف ذات العلاقة محاولاً احتواء الثورة والسيطرة عليها، ها هو يعترف بفشله الذريع، ويخرج عن لباقته الدبلوماسية، ويُعلن - ومن دون الشعور بأي حرج - بأنّ الوضع في سوريا قد خرج عن السيطرة.
لقد استخدمت أمريكا كل الإمكانيات والوسائل والآليات التي بجعبتها، وبجعبة روسيا، وبجعبة عملائها، لإجهاض الثورة، وإخمادها، وتصفيتها، وقد كان آخرها محاولاتها المحمومة لكسر صمود الحاضنة الشعبية في حلب، وما حولها، وذلك من خلال السماح للطائرات الروسية وطائرات النظام بالقصف الوحشي الجنوني لمدينة حلب، فلم يسلم من القصف أي مكان يمكن أنْ يأوي إليه المدنيون، فشمل القصف - بشكل متعمدٍ ولأول مرّة - كل المستشفيات والمستوصفات والمدارس والأسواق والمخيمات، وقُتل المئات في أيامٍ معدودات، وهام الناس على وجوههم، وتقطّعت بهم السبل، وراحت وسائل الإعلام تُركّز على جحيم الموت، ورائحة الدم، وحجم الدمار، ولم يكن الهدف الأمريكي من تلك التغطية الإعلامية الواسعة لحرق حلب المساعدة في وقف العدوان، أو إدانة المعتدي، أو فرض الهدنة على الأطراف المتصارعة، وإنّما كان الهدف منها تحديداً هو محاولة تركيع الناس، وحملهم على الاستسلام، وقبولهم بالتشارك مع نظام الطاغية في الحكم، وتخليهم عن فكرة إسقاط النظام، وإدخالهم في عملية التفاوض المُذلّة التي تمنح النظام المتداعي قبلة الحياة.
لكنّ الرياح جرَت بعكس ما تشتهيها السفن الأمريكية والروسية، فعلى الصعيد العسكري نجحت قوات بعض الفصائل في تسديد ضربات موجعة جداً لقوات النظام وحلفائه في ريف حلب الجنوبي، فاستولت على خان طومان، وقطعت خطوط إمدادات النظام إلى مدينة حلب، وقتلت العشرات من عناصر قواته، ومن عناصر المرتزقة، واعترفت إيران بمصرع ثلاثة عشر عنصراً من مستشاريها في تلك الضربات، وأُجْبِرت روسيا - وهي الداعم العسكري الأساسي للنظام - على الإعلان عن تمديد الهدنة من جانبٍ واحدٍ في مدينة حلب، وريفها الشمالي، للتفرغ لمساعدة النظام في صد الهجوم الكاسح على خان طومان، وتخفيف أثر الهزيمة التي لحقت به هناك، ومن جهتها أُجْبِرت أمريكا على أنْ تطلب من روسيا إدخال جبهة النصرة في ترتيبات الهدنة المستقبلية.
فأمريكا تخطط لجذب جبهة النصرة إلى شراك الهدن التي تنتهجها، ظنّاً منها أنّ تحييد جبهة النصرة يعني تحييد سائر الفصائل الأخرى الرافضة للحلول التفاوضية الاستسلامية، لكنّ ظنّها هذا في غير محله، فغالبية الثوار لن يقبلوا بمثل تلك الهدن المشبوهة، ولن ينخدعوا بسراب المفاوضات العبثية.
وعلى الصعيد الشعبي وبالرغم من إظهار وسائل الإعلام لبعض المسيرات الهزيلة التي تُنادي بتثبيت الهدنة واستئناف المفاوضات في جنيف، إلاّ أنّ أمريكا تُدرك أنّ الزخم الشعبي الحقيقي في سوريا من شمالها إلى جنوبها يميل إلى رفض الهدن مع نظام الطاغية، وأنّ المسيرات والوقفات الشعبية الكثيرة المطالبة بإسقاط النظام بكافة هياكله ورموزه ومؤسّساته، وإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة في بلاد الشام، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فيها، والتي غالباً ما تتكتم وسائل الإعلام المأجورة عن نقل أخبارها، لهي أكبر بكثير من تلك المسيرات المزيّفة المدعومة من المعارضة المصطنعة التي تُنادي بالهدن وبالمفاوضات.
فالحاضنة الشعبية في سوريا هي حاضنة إسلامية بامتياز، وهي لن تُفرّط أبداً بالثوابت الإسلامية للثورة، وذلك بالرغم من محاولة كسر شوكتها بارتكاب المجازر تلو المجازر بحق المدنيين العُزّل، وإنّه وبالرغم من استمرار بث الرعب في قلوب الناس، وتخويفهم من عواقب رفض الحل السلمي الانبطاحي مع النظام، لكن ذلك كلّه لم يزد الحاضنة إلاّ صموداً وثباتاً على مبادئها ومواقفها.
إنّ جون كيري الذي اتصل بوزير الخارجية الروسي لافروف ثلاثاً وعشرين مرّة في غضون شهرٍ واحد لِيُنسّق معه ترتيبات الضغط على أهل الشام تارةً بالحرب وتارةً بالهدن لم يعثر - هو ومن خلفه في الإدارة الأمريكية - حتى الآن على طريقةٍ مُثلى تُمكّنه من التعامل مع الثورة لإنهاكها وإنهائها، أو حرفها واحتوائها، أو لجمها واقتيادها، وهو الآن مضطرٌ للعودة إلى ما يُسمّى بالمجموعة الدولية لدعم سوريا لإشراكها مع أمريكا وروسيا في البحث عن حلٍ آخر للمأزق في سوريا.
وقد أعلنت الخارجية الأمريكية أنّ الوزير كيري سيجتمع في باريس مع وزراء خارجية فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا لمناقشة الأوضاع في سوريا، ومن جهتها تُحاول الدول الأوروبية في هذه الأثناء مشاركة أمريكا وروسيا في تحديد القواعد الرئيسية الضرورية لوقف كامل للقتال في سوريا، والعودة إلى المفاوضات في جنيف وفقاً لترتيبات جديدة.
وكانت بريطانيا وفرنسا قد استغلتا التعثر الأمريكي والروسي في سوريا، فطالبتا بإجراءات جديدة تُمكّنهما من المشاركة في وضع الحلول للنزاع في سوريا، فالسفير البريطاني في الأمم المتحدة وجّه انتقاداً لاذعاً إلى روسيا على خلفية منعها صدور بيان عن مجلس الأمن يُدين الهجوم على مدينة حلب، وأيضا فإن وزير الخارجية الفرنسي يُحضّر لاجتماعات باريس حول الوضع في سوريا بطريقة توحي بضرورة إعادة وضع أسس جديدة لحل الصراع في سوريا بدلاً من أسس النهج الحالي الذي تحتكر أمريكا وروسيا وضع قواعده بمفردهما.
لكنّ ثورة الشام تبقى أكبر من أمريكا وروسيا وفرنسا وبريطانيا، وأكبر من كل المجموعات الدولية، وأكبر من كل المتآمرين عليها في الداخل والخارج، فهي ثورة إسلامية مباركة، تُجدّد نفسها، وتطرد خبثها، ترفض المساومة والمتاجرة، وهي لن تخضع ولن تركع بإذن الله، ولن تنتهي إلاّ بإسقاط النظام الطاغوتي بكل رموزه وأوثانه وأشكاله، وإقامة دولة الإسلام على أنقاضه، وطرد أمريكا وروسيا وأوروبا وتوابعهم شر طردة من كل بلاد الشام، ومن كل بلاد المسلمين.
رأيك في الموضوع