الاستعمار جزء من المبدأ الرأسمالي وهو طريقة الرأسمالية في تنفيذ فكرتها، وبالرغم من كون الاستعمار كممارسة ولد في الغرب الكافر قبل ولادة الرأسمالية كما هو الحال في الحروب الصليبية إلا أنه مع ذلك ترعرع ونشأ في أحضان الرأسمالية ليصبح جزءا من وجهة النظر للمبدأ الرأسمالي وطريقته في تنفيذ فكرته، وحال الاستعمار مع الرأسمالية كقول الشاعر: رَضِيعَيْ لِبَانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَقَاسَما * بأسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لا نَتَفَرَّقُ.
بل كان الاستعمار في كثير من الأحيان غاية للغرب أكثر منه طريقة لتنفيذ فكرته، وما الجرائم البشعة التي مارسها الغرب الكافر في إفريقيا إلا أصدق مثال على ذلك. فلم يكن يعنى بنشر ثقافته ووجهة نظره في الحياة بل كانت عنايته نهب الثروات ومص دماء الناس ولو بإبادتهم عن بكرة أبيهم. وقد يظن ظانّ أن الاستعمار عندما قدم لإفريقيا قدم إليها وهي بلاد مغرقة في البدائية والجهل، وأن جريمته لم تزد عن تركه لها كما هي من غير أن يقدم لها شيئا، وهذا غاية في التضليل، فإفريقيا السوداء التي نراها اليوم على حال بئيس وأهلها جوعى هلكى، لم تكن كذلك قبل قدوم الغرب الكافر المستعمر، وأوضح مثال مدينة تمبكتو فقد كانت مركزا يتوافد إليه الدارسون من كل أنحاء العالم لأنها كانت تحوي أقدم الجامعات في العالم جامعة سنكور التي أنشئت في القرن الخامس عشر الميلادي في مسجد سنكور، حيث يقال بأن عدد طلابها وصل إلى 25000 طالب في ذلك الوقت، كما أن مكتبات تمبكتو العريقة تحتفظ بنحو 300 ألف مخطوطة، وتختزن صفحات هذه المخطوطات واحدا من أهم الكنوز الثقافية الإسلامية في أفريقيا.
فانظر إلى مالي وأهل مالي بعد قرون من الاستعمار أين وصل بهم الحال لقد أصبح معظم السكان فيها أميّون، ونحو 69% من الراشدين لا يعرفون القراءة والكتابة، في حين أن 27% فقط من الأطفال يلتحقون بالمدارس.
ولم تكن تلك حال تمبكتو في إفريقيا فقط، فمدن بينين وكيلوا وكوماسي كانت هي أيضا مدناً مميزة وتتمتع بمدنية عالية، فانظروا إلى حالها اليوم بعد الاستعمار، فقر وجهل وموت وثروات منهوبة، لذلك ولتصور حقيقة استعمار الغرب الكافر لا بد من دراسة ما فعله الغرب الكافر في إفريقيا حيث دمر حضارتها ونهب ثروتها واستعبد أهلها، وما يزال يفتك بها بوحشية بالغة السوء، وما مذابح رواندا ومجازر إفريقيا الوسطى إلا مثال صغير لآثار الاستعمار الغربي الرأسمالي لإفريقيا.
وهذا ليس في إفريقيا وحدها بل في العالم أجمع، ولو استعرضنا سيرة الرأسمالية في العالم منذ بداية ظهورها وآثار سلوكها الاستعماري على البشرية جمعاء لوقع العجب من حجم الشر الذي وجد في الأرض بوجود هذا المبدأ، والأرقام التقديرية لحجم الدمار والقتل الذي صنعته الرأسمالية مهولة جدا، وهذا القتل والتدمير لم يكن مقتصرا على صنيعة الرأسمالية بالبلاد الإسلامية، فأمريكا التي تبشر العالم بالحرية وتعتبر نفسها قائدة العالم الحر إنما هي نتاج إبادة جماعية لسكانها الأصليين حيث يقول المؤرخ بيتر مونتيغ "بحلول 1890م تقلص عدد السكان الأصليين إلى 2.5٪ من الأرقام الأصلية وصودر 97.5٪ من أراضي السكان الأصليين .... مئات ومئات من القبائل المحلية مع لغات فريدة من نوعها تم محوها ببساطة من على وجه الأرض"، وجرائم أمريكا في أمريكا لا يمكن أن تكون من فعل بشر لهم قلوب بل لا يملك المطلع عليها إلا أن يقول إنهم ذئاب تتبرأ من جرائمهم الذئاب.
وقد كان نتاج حروب الغرب الكافر أن قتل في الحروب العالمية ما يقدر بـ 62 مليون شخص، وإذا أردنا أن نتحدث عن جرائم الرأسمالية في بلاد المسلمين في سوريا واليمن وأفغانستان والعراق ولبنان والبوسنة والهرسك والسودان والشيشان وأراكان وأفطاني وفلسطين، ومن قبل في الجزائر وتونس وليبيا، وغيرها... لطال الحديث ولم ينتهِ ويكفي المرء أن يقول إذا كان ذاك هو فعلهم ببني جنسهم ومن هم على ملتهم فما بالك إذا أضيف إلى ذلك حقدهم الأسود على المسلمين، وتعطشهم للفتك بهم والقضاء على الإسلام الذي يقض مضاجعهم!
إن الرأسمالية نشأت من رحم الغرب الكافر، وهي فوق فسادها من حيث الأساس الذي قامت عليه، وهو فكرة الحل الوسط وفصل الدين عن الحياة، فقد سقيت بماء الجشع والنهب والسلب والحقد الموجود أصلا في التركيبة الثقافية لأوروبا، والمدقق في سر الثروة والغنى الذي وصل إليه الغرب الكافر يرى أنه قام أصلا على نهب خيرات الشعوب ومقدراتها، فالغرب الكافر برمته بما فيه أمريكا اليوم والتي نشأت أصلا على يد حثالة الأوروبيين، إنما تقوم الرفاهية فيه على نهب ثروات العالم.
ولا يمكن للعالم أن يتخلص من شرور الاستعمار وآثاره الكارثية على العالم أجمع إلا بالتخلص من الرأسمالية، ونبذها، لبطلان الأساس الذي قامت عليه من جهة وللشر الذي نتج عنها في العالم كله من جهة أخرى، فمأساة الناس جميعا وسبب الفقر والجوع والحروب والدمار في العالم كله يعود للرأسمالية، ولا يعني هذا أن العالم قبل الرأسمالية لم يكن يعرف الحروب، لا، ولكن حروب العالم قبل الرأسمالية لم تكن استئصالية في مجملها، ولم يعرف العالم الحروب العالمية، كما أن أزمات الاقتصاد العالمية لم توجد إلا بعد وجود الرأسمالية، فلم يعرف العالم هذا الحجم من الشرور إلا بعد ظهور الرأسمالية.
ولذلك من العجيب أن يرد الوهم على عقول بعض الناس فيظنون أن المستعمر الكافر ذو التاريخ الطويل والحاضر الشاهد يحمل بيده لهم دواء لما صنعته يداه فيهم من السلب والنهب والقتل والحرق والسطو والاغتصاب والكفر والشذوذ، فيركنون له ويميلون إليه، وهو القاتل والسكين بيده تقطر من دمائهم. أليس ذلك من أعجب العجب، فلو كان من يميل إلى المستعمر من بني ملته لما كان له عذر، فكيف إذا كان من يركن إليه ويدور في حماه ويتمسح به من أبناء المسلمين ممن يقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾؟!
إن الواجب على البشرية جمعاء العمل للتخلص من شرور الرأسمالية ونبذها، ولا يكون ذلك مثمرا ومنتجا إلا بظهور مبدأ يقوم على أساس قطعي هو الإسلام، وهذا المبدأ يجب أن يتجسد في دولة هي دولة الإسلام الخلافة الراشدة على منهاج النبوة تطبقه في الداخل وتحمله إلى العالم أجمع مشعل نور ورحمة وهداية للبشرية جمعاء.
والأمة الإسلامية بما أنعم الله عليها، حيث جعلها خير أمة أخرجت للناس، هي المؤهلة وحدها لقيادة العالم بالدين الذي ارتضاه الله للبشرية جمعاء وجعل السعادة فيه وحده فقط، والعبء يقع على أبناء الأمة الإسلامية لحمل الإسلام حملا مبدئيا ليصل إلى العالم أجمع بالطريقة التي شرعها الله سبحانه لحمله والدعوة إليه، بأن يطبق في دولة تحمله بالدعوة والجهاد لتخليص العالم من شر الرأسمالية والرأسماليين.
رأيك في الموضوع