تظهر بين الفيْنة والأخرى في أروقة صُنّاع القرار السياسي الإيرانية اختلافات سياسية يصعب جسرها، على مستوى القيادات العليا في إيران، بدأت تطفو على السطح، ويُظن بأنّها ستُحدث تأثيراً بيّناً في السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية، ويبدو معها أنّها قد تؤثّر في صنع القرار الإيراني، أو أنّها قد تُغيّر في الاتفاقات الدولية التي أبرمتها إيران مع القوى العالمية كالاتفاق النووي الذي وقّعته إيران مع الدول العظمى الخمس زائد واحد، أو أنّها قد تؤدي إلى تغيير ملموس في بُنية النظام السياسي في داخل إيران نفسها، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل لهذه الاختلافات انعكاسات جدية على القرار السياسي الإيراني؟ وهل لها إسقاطات منظورة على الواقع؟
يُقال بأن المرشد آية الله خامنئي يُعارض الاتفاق النووي، وقد نُقل عن مقربين منه كرئيس تحرير صحيفة كيهان الإيرانية المحافظة حسين شريعتمداري قوله إن: "خامنئي لم يوافق علناً على الاتفاق أو يرفضه"، وقال شريعتمداري في افتتاحيته إن أجزاء كثيرة من الاتفاق تُهدد استقلال وأمن إيران، وما أسمّاه بـ"قداسة النظام الإسلامي للجمهورية" في إيران، معتبراً - من دون أن يحدد هذه الأجزاء - بأنه سيكون "كارثياً إذا تم تنفيذ الاتفاق"، وأضاف: "سواء تمت الموافقة على هذا النص أو تم رفضه، لن نسمح لأحد بأن يضر المبادئ الرئيسية لـ(حكم) النظام الإسلامي".
وفي السياق نفسه فقد انتقد ممثل بارز لخامنئي وهو أحمد علم الهدى الاتفاق النووي قائلاً إنه "تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعها خامنئي"، وقال بأنّه: "لا ينبغي للأجانب أن يصلوا إلى الأجهزة الأمنية الإيرانية، لكن الاتفاق ينتهك ذلك بالسماح للمفتشين بزيارة مواقع عسكرية".
وكان خامنئي بالمقابل قد صرّح لوكالة الأنباء الطلابية "ايسنا": "إن مفاوضينا النوويين يحاولون سلب العدو سلاح العقوبات فإذا نجحوا في محاولاتهم فإن ذلك سيكون جيدا وإذا لم يفلحوا فإن على الجميع أن يعلموا أن هناك طرقا أخرى للحد من سلاح العقوبات"، وأشار إلى مقولة الرئيس الإيراني حسن روحاني أن نتيجة المفاوضات بين الجانبين أن يصلا إلى نقاط مشتركة لكي لا يفرض طرف رأيه على الطرف الآخر، وأضاف: "إن إيران من أجل التوصل إلى اتفاق مع السداسية الدولية أوقفت تطوير أجهزة تخصيب اليورانيوم وإنتاج اليورانيوم بنسبة 20 بالمائة كما أوقفت العمل في منشآت أراك وفوردو وعلى هذا فإن الجانب الإيراني قد عمل بصورة منطقية ولكن الطرف الآخر يريد الابتزاز".
وأمّا وزير الخارجية محمد جواد ظريف فقال لوكالات الأنباء الإيرانية: "لدينا نظام سياسي حيوي في إيران والشعب الإيراني يفهم أن الحكومة اتخذت تدابير ضرورية لضمان نجاحنا في المفاوضات، وأن المرشد يدعم الوفد الإيراني المفاوض في المحادثات النووية، وأن الاتفاق النووي يصب في صالح الأمن والسلام بالمنطقة ويخدم التقدم العلمي الإيراني".
وأمّا قائد القوات المسلحة الإيرانية الجنرال حسن فيروزآبادي المقرب من المرشد الإيراني الأعلى فقد دعم الاتفاق، بالرغم مما يعتريه من قلق حوله.
إنّ هذه التصريحات الصادرة عن المحسوبين على خامنئي وعن خامنئي نفسه لا تدل على رفض الاتفاق، وإنّما تُثير حالة من الغموض المقصود حول الموافقة المشروطة للاتفاق بهدف الاستهلاك المحلي في الداخل لاستيعاب المحافظين من المعارضين الحقيقيين للاتفاق بالتصريحات الكلامية، والديباجات اللفظية، وكذلك بقصد الضغط على المعارضين للاتفاق في الخارج وذلك ليكفوا عن معارضتهم، ولكي لا يُنغصوا على الإدارة الأمريكية التي تُكافح لتمريره، وذلك بتخويفهم والقول بإنّ إيران لم تُوافق على الاتفاق بعد، وأنّ من الأفضل لهم قبول الاتفاق من أجل عدم منح المحافظين المتشددين في إيران الفرصة للقيام بزعزعة السلم العالمي، وهو ما يفعله تماماً كل من أوباما وكيري بقوة فهما يخاطبان الكونغرس والمعارضين للاتفاق بكل أساليب التخويف والتهديد لحملهم على الرضوخ وإقرار الاتفاق.
ومن هنا كانت الاختلافات بين القادة الإيرانيين المحافظين من جهة، والإصلاحيين من جهة ثانية، ما هي سوى اختلافات شكلية ولفظية وليست اختلافات سياسية حقيقية، لأنّها لو كانت حقيقية لما سُمح بدايةً للمفاوضات بالاستمرار، ولما سُمح أصلاً لظريف بتوقيع الاتفاق.
فإيران ومنذ ثورة الخميني ما زالت تلعب مثل هذه الأدوار المشبوهة فتُهاجم أمريكا وتصفها بالشيطان الأكبر، بينما أمريكا تصفها بالدولة المارقة الراعية للإرهاب، والنتيجة أنّ إيران استُغلت باستمرار كفزّاعة لدول الخليج والتي تحولت إلى ما يُشبه البقرة الحلوب التي تُدرّ على أمريكا تريليونات الدولارات بفضل بيعها لترسانات الأسلحة لها.
وأضافت أمريكا لإيران دوراً جديداً تلعبه بإتقان في هذه الأيام وهو الدور الطائفي الذي يُساعدها التلبس به على تحقيق أجندتها في تمزيق المنطقة إلى كيانات مذهبية وعرقية، ليُسهّل عليها السيطرة على الثورات المتفجرة فيها، والتي بدأت تتمنطق بالفكر الإسلامي الذي بات يُثير الرعب لدى أمريكا ولدى القوى الكبرى الأخرى المستعمِرة على حدٍ سواء كونه يُفضي في النهاية إلى قيام دولة الخلافة على منهاج النبوة.
إنّ نظام الملالي في إيران هو من أفضل الأنظمة الموجودة التي ساعدت - وما تزال تُساعد - أمريكا في تحقيق سياساتها الخارجية، وتجربته في إيران منذ ثورة الخميني وحتى هذه الأيام يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن لا نظام غيره قد أفاد أمريكا كما أفادها هذا النظام، فهذا النظام قد ساعدها في السابق في غزوها لأفغانستان والعراق، ويُساعدها الآن في قمع الثورات في بلاد الشام واليمن، وذلك من خلال تثبيت أنظمة الطغاة كما هو الحال في سوريا، وإفساد الثورات التي اندلعت كما هو الحال في اليمن.
وقد وقفت أمريكا موقفاً سلبياً مائعاً إزاء انتفاضة الإصلاحيين وعلى رأسهم مير حسين موسوي ومهدي خروبي اللذان أوشكا أن يُحدثا تغييراً جذرياً في النظام السياسي لولا انقلاب النظام ضدهما، وتزوير نتائج الانتخابات التي فازا فيها على مرشح خامنئي إذاك محمود أحمدي نجاد، وهو ما أدّى بالتالي إلى إحباط أول عملية تغيير جادة ضد النظام منذ ثورة الخميني، وتمّ زجّ قادة الانتفاضة بالسجون، وفرض الإقامة الجبرية على قائديْ الانتفاضة موسوي وخروبي المستمرة حتى الآن.
وبينما وقفت أمريكا موقفاً مخذّلاً للانتفاضة كان موقف بريطانيا وأوروبا أكثر حزماً وأشد تأييداً لأولئك الإصلاحيين المنتفضين، وهو ما يُفسّر موقف النظام الإيراني الصارم ضد بريطانيا التي تم إغلاق سفارتها واقتحامها عدة مرات، كما تم خروج المظاهرات الموجهة ضد بريطانيا تحديداً، كما تم هجوم إعلامي إيراني شديد ضدها.
وهكذا نجد أنّ أمريكا تقف موقفاً مسايراً لنظام الملالي، وسلبياً تجاه الإصلاحيين، وهو ما يؤكد على أنّ أمريكا تُفضّل استمرار وجود نظام الملالي في الحكم، ولا ترغب بدعم أي توجه للإصلاحيين، لأنّ هذا النظام قد أفاد أمريكا بشكل لا يوصف، وهي تخشى من التغيير طالما أنّ أهدافها متحققة بوجوده، ولا حاجة لها لتجارب جديدة مع الإصلاحيين الذين قد يجلبون لإيران والمنطقة الكوارث وعدم الاستقرار، فأمريكا بالتأكيد في غنىً عنها.
رأيك في الموضوع