أعلن حزب إيران اللبناني ما أسماه (عملية الأربعين)، بعد فجر يوم الأحد ٢٥/8/٢٠٢٤م، قال إنه أطلق خلالها ٣٤٠ صاروخاً من صواريخ الكاتيوشا، تصاحبها مسيّراتٌ انقضاضيةٌ، استهدفت أهدافاً نوعيةً، كما أعلن الحزب، دون أن تُعرف نتيجة العملية. وقد أكد الأمين العام للحزب حسن نصر الله، في خطاب له مساء اليوم ذاته، أنها عملية الرد على اغتيال قائده فؤاد شُكر المعروف بالحاج محسن، الذي اغتيل في 30/7/2024م، في ضاحية بيروت الجنوبية، حيث قال: "فنحن نعتبر أن عملية الرد على اغتيال الشهيد القائد الحاج محسن واستهداف الضاحية قد تمت..."! وزاد قائلاً: "وإذا لم تكن النتيجة في نظرنا كافيةً فسنحتفظ حالياً لأنفسنا بِحق الرد حتى وقت آخر... هذا يأتي وقته إن شاء الله لاحقاً في وقت متأخر ولاحق..."!
ولقد أكدت واقعة قيام يهود قبل نصف ساعة بما أسموه عملية استباقية، أنهم أُعلِموا بالأمر! والأكيد أن حزب إيران قد أعلم إيران بالعملية، والتي على الأغلب قامت بإعلام أمريكا لتنسيق الأمر معها - كونها، أي إيران، دائرة في فلك أمريكا - من أجل تجنب قيام يهود برد أوسع يؤدي لحرب إقليمية واسعة! ومن هنا أتت تطمينات نصر الله لأهل الجنوب بالعودة إلى منازلهم، بعد أن غادروها ظناً منهم أنها الحرب التي يتوعد بها يهود لبنان، بسبب شدة القصف وقوته في فجر ذلك اليوم، فقال في خطابه مُطَمْئِناً إلى عدم وجود حرب واسعة: "من يريد أن يرجع إلى بيته فليعد إلى بيته..."!
ومما يلفت النظر، في السياق ذاته، تصريحات رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال تشارلز كيو براون، الذي صرح لـرويترز "بأن هجوم (حزب الله)، كان واحداً فقط من هجومين كبيرين هدد بشنهما ضد (إسرائيل) في الأسابيع الأخيرة؛ وعندما سُئل عما إذا كان خطر اندلاع حرب إقليمية قد انخفض في الوقت الراهن، قال براون: إلى حد ما نعم"!
فهذا التناغم في التصريحات، وهذه الحالة من عملية مقابل عملية، عِلاوة على تفرد الحزب بهذه العملية بمنأى عن الرد الإيراني على مقتل هنية في عقر دارها، وبمنأى كذلك عن الرد اليمني على ضربات الحديدة لأمور تكتيكية، كما وصفها عبد الملك الحوثي! يجعل الأمر مدعاةً للريبة من أن هناك تواطؤاً إقليمياً من إيران مع القوى الدولية الفاعلة، وتحديداً أمريكا، على أن هذه هي حدود العملية المتوافق عليها، وأن العملية قد انتهت! وأما الرد الإيراني على مقتل هنية، فواضح فيه الـتأجيل والتسويف وتغيير اللهجة، من الحرب إلى سلوك المسالك الدولية والدبلوماسية، ما يوحي بعدم وجود رد حالي، أقله في المدى المنظور والمتوسط، وربما البعيد!
ومن هذا قد يُفهم أن هذه الضربة كانت لحفظ ماء وجه حزب إيران في لبنان أمام جمهوره ومناصريه، بأن الحزب رد على مقتل قيادي من الصف الأول عنده، وقد يؤشر إلى عدم وجود ضربة إيرانية رداً على مقتل هنية، التي ربما كان حزب إيران ينتظرها لتكون ضربةً مشتركةً تعطي مفعولاً إعلامياً أقوى، حتى ولو لم تكن نتائجها العسكرية ذات شأن!
لقد أصبح الوضع القائم في فلسطين ولبنان منذ أحد عشر شهراً مدعاةً لتساؤلات تطرح بجدية: هل بالفعل هذه العمليات مرتبطةٌ بغزة وما يحدث فيها، أم بما أعلنه نصر الله في الخطاب ذاته "من أجل تثبيت المعادلات"؟! وأين وحدة الساحات التي انطلقت من بعد عملية سيف القدس في أيار/مايو ٢٠٢١م؟! فلا هي ظهرت كما هو مطلوب مع غزة، أي الالتحام في جبهة عريضة للمقاومة مع فلسطين، حسب تصريحات محمد الضيف القائد العسكري لكتائب القسام، يوم انطلاق عملية الطوفان! ولا هي ظهرت في رد مشترك من محور واحد، كما أسماه يحيى السنوار، مُشكل من سوريا وإيران ولبنان واليمن، على اغتيالات وضربات موجعة!
إنّ ما يحدث، يكاد لا يكون له إلا تفسيرٌ واحدٌ؛ إنه السير بحسب الإملاءات الإيرانية، التي لا تريد حرباً واسعةً، وهذا ما تريده أمريكا التي تدور إيران في فلكها، ولم تتفلت منه حتى حين سنحت الفرصة، يوم تهاوى كيان يهود أمام ضربات ثلة مجاهدة مؤمنة صابرة! نعم هذا ما تريده أمريكا الموجودة بثقلها في المنطقة لفرض حلها لقضية فلسطين، عبر "إدماج (إسرائيل) في محيطها" كما قال بايدن في خطابه في 18/10/2023م، في أوج صدمة يهود من طوفان الأقصى، أما يهود وعلى رأسهم متطرفوهم، من أمثال بن غفير وسموتريتش وعميحاي إلياهو ومعهم نتنياهو فإنهم يريدون يهودية الدولة، ويرون توجه أمريكا ليس في مصلحتهم، ويجعلهم دولةً تابعةً لأمريكا.
هذا الانسجام بين ما تريده أمريكا والدائرون في فلكها وعملاؤها، انعكس على الأرض ليتحول الأمر عند حزب إيران، وعند كل أذرعها، من قتال وجهاد إلى مشاغلة وإسناد، لا ينهيان احتلالاً ولا يوقفان سفك دم في غزة ولا في لبنان! بل يشجعان يهود اليوم، وهم مطمئنون، على التوسع في غيهم نحو الضفة الغربية ومخيماتها، قتلاً وهدماً واعتقالاً! ويجعل هذه المشاغلة والإسناد لا يمكن أن تكون إلا لتحسين شروط المفاوضات مع كيان يهود!
إن الواقع والوقائع، تثبت أن لا حل مفصلياً لاقتلاع كيان يهود من جذوره إلا قتاله، ولكن هذا القتال الفصائلي وإن كان يُحدِث نكايةً بالعدو، لكن كونه يحدث عبر المحاور التابعة، وبوجود الأنظمة العميلة التي تحيط بفلسطين إحاطة القيد بالمعصم، ويركز على جعل نهاية المعارك طاولة تفاوض تبسط عليها الدول الكبرى والإقليمية التابعة لها أو التي تدور في فلكها مشاريعها وخططها، وليس قلع المحتل؛ هذا القتال بهذه العقبات، لا ينهي احتلالاً أو يعيد أرضاً، إنما الذي يفعل هو جيوشٌ تتحرك، فتخلع أنظمةً، وتخلع مغتصباً ومحتلاً، ثم تنصب لها إماماً يقاتل من ورائه ويتقى به، لا يبيع المقاتلين والمجاهدين من تحت طاولات التفاوض وبأوراق الصفقات، بل يجاهد ويصول ويجول لا لعقد المعاهدات، بل إرضاءً لرب البريات، فهل يكون من الأمة وأهل نصرتها وقوتها رجلٌ رشيدٌ يعيد سيرة الأنصار الأوائل؟! ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
رأيك في الموضوع