قامت القوات المسلحة لأذربيجان في التاسع عشر من أيلول/سبتمبر 2023م بهجوم صاعق على الجيب الجبلي الخاضع للاحتلال الأرمني منذ ثلاثين عاماً والمعروف باسم إقليم ناغورنو قرة باغ، فاستعادته خلال أقل من أربع وعشرين ساعة، وسيطرت على تسعين نقطة عسكرية كان الأرمن يتحصنون بها فيه، وهو ما أدى إلى استسلام الأرمن بسرعة، وتسليم أسلحتهم للقوات الأذرية بالتنسيق مع قوات السلام الروسية المنتشرة على الحدود بين الإقليم وأذربيجان، ثمّ هجرة غالبيتهم إلى أرمينيا.
إنّ توقيت هذا الهجوم الخاطف يأتي في وقت تنهمك فيه روسيا في حربها الطويلة مع أوكرانيا، ولا تستطيع الانشغال بحرب جديدة تشتعل في جنوب القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان، فلقد كان من المفترض وفقاً لاتفاقية الدفاع المشترك التي تربط روسيا بأرمينيا أنْ تقوم روسيا بمنع أذربيجان من استرداد الإقليم بالقوة كما كانت تفعل طوال الثلاثين عاماً الماضية، لكن الأمور في المنطقة قد أفلتت من يدها بالفعل منذ عام 2020 وذلك عندما قامت أذربيجان بإسنادٍ من تركيا بشن حرب شاملة على أرمينيا تمكنت وقتها من تحرير جميع الأراضي المحتلة حول ناغورنو قرة باغ، ولم تستطع روسيا وقتها منع أذربيجان من استرداد معظم أراضيها ما عدا إقليم ناغورنو قرة باغ الذي جاء وقت تحريره في هذه الأوقات.
لقد أدركت أرمينيا منذ خسارتها للأراضي التي سيطرت عليها حول إقليم ناغورنو قرة باغ عام 2020 أنّ سقوط الإقليم بات مسألة وقت، وأنّ روسيا لم تعد قادرة على حماية أرمينيا من أذربيجان ولا منعها من احتلاله، لذلك قامت أرمينيا عام 2021 بسحب قواتها من الإقليم، ولم يبق فيه إلا الأرمن الانفصاليون الذين كانوا قد أعلنوا فيه جمهورية من طرف واحد غير معترف بها رسمياً، وهم أعجز ما يكونون عن الوقوف أمام الجيش الأذري من دون دعم أرمينيا.
وعندما جاء هجوم أذربيجان الأخير على الإقليم وقفت أرمينيا موقف المتفرج، ولم تفعل شيئاً للأرمن الانفصاليين، وبررت ذلك بضعف الموقف الروسي، وعجز روسيا عن القيام بحماية الأرمن في الإقليم، وخذلانها لهم بسبب عدم تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك بين روسيا وأرمينيا، مُعلّلة ذلك الموقف الروسي الضعيف بانشغال روسيا بحربها في أوكرانيا.
لقد استغلت أمريكا هذا الموقف الجديد الذي أحدث فراغاً واضحاً في القوقاز الجنوبي ويحتاج إلى قوة دولية لملئه فقامت من فورها بالاتصال بأرمينيا وبقيادتها السياسية والعسكرية، وأجرت معها مناورات عسكرية مباشرة، في الوقت الذي كانت رحى الحرب تدور في المنطقة، ثمّ عرضت عليها حمايتها بدلاً من الحماية الروسية، وبدأت بالاتصال بالقيادات في أذربيجان للقيام بالوساطة بينها وبين أرمينيا.
ولم تكتفِ أمريكا بذلك بل إنها قامت بعد انتهاء أذربيجان من السيطرة على إقليم ناغورنو قرة باغ ووقف إطلاق النار بإرسال وفد خاص إلى أرمينيا سلّم رسالةً إلى رئيس وزرائها نيكول باشينيان من الرئيس بايدن تتضمّن نقطتين مُهمّتين ومُحدّدتين وهما:
1- إرسال وحدة عسكرية أمريكية للتمهيد لإرسال بعثة مُراقبة دولية إلى جنوب القوقاز (أرمينيا وأذربيجان) بحجة حماية المدنيين الأرمن.
2- إرسال مُساعدة مالية بقيمة 11.5 مليون دولار أمريكي للاجئي ناغورنو قرة باغ الأرمن.
ولم ترد روسيا على هذا التدخل الأمريكي السريع والمباشر في منطقة نفوذها التقليدية إلا بالإعلان عن امتعاضها من ذلك، ثمّ إطلاق تهديدات فارغة تُدين تصرفات أرمينيا ورئيس وزرائها المتعاون مع أمريكا، لكنّها لم تتخذ أي إجراء عملي فعّال لمنع التدخل الأمريكي.
ويمكن إجمال النتائج الجيوسياسية لهذه الحرب على المستوى الإقليمي والدولي بما يلي:
1- تمكّنت أذربيجان من تحرير أراضيها المحتلة بعد ثلاثين عاماً من الاحتلال الأرميني مستفيدة من ضعف موقف روسيا بسبب انشغالها بحرب أوكرانيا، ومستفيدة أيضاً من دعم تركيا السياسي والعسكري القوي الذي كان حاسماً في تفوقها على الأرمن في المعركة.
2- خسرت أرمينيا والأرمن الانفصاليون الحرب بسبب اعتمادهم على حماية الروس العسكرية وبسبب ركونهم إلى فرنسا وأوروبا في الدفاع عنهم بوصفهم جزءاً لا يتجزأ من الصليبية الدولية، إلا أنّ المصالح الاقتصادية والسياسية كانت أقوى من الروابط الدينية العاطفية.
3- ربحت تركيا من هذه الحرب تعميق أواصرها وتقوية علاقاتها بالشعوب الناطقة باللغة التركية بوصفها تقوم بدور الدولة الحاضنة والراعية للشعوب التركية في القوقاز وفي آسيا الوسطى.
4- خسرت إيران من هذه الحرب والتي كانت تُعوّل على دعم أرمينيا لمساعدتها في إبعاد تركيا عن عمقها الطوراني، ولإبقاء إيران حاجزاً جيوسياسياً أمام هذا التمدد التركي.
5- خسرت روسيا من هذه الحرب خسارةً كبرى بسبب ضعفها جراء ورطتها في أوكرانيا، وبسبب تحالف تركيا مع أذربيجان الذي كان ضاغطاً عليها، ومانعاً إيّاها من استمرار دعم أرمينيا ضد أذربيجان.
6- تمكّنت أمريكا من التغلغل في جنوب القوقاز اعتماداً على تركيا التي ساهمت في انتصار أذربيجان، والتي فتحت لها المجال للتواصل مع أرمينيا بحجة الحماية، والحلول مكان روسيا عسكرياً فيها، ولإعادة ترتيب خطوط ومسارات الطاقة من أذربيجان إلى أوروبا.
7- خسرت فرنسا مكانتها في القوقاز بصفتها كانت تقوم بدور الراعي لأرمينيا من ناحية دينية.
إنّنا بصفتنا مسلمين لا شك أنّنا نفرح لتحرير أي أرض إسلامية محتلة من أيدي الكفار، وإنّ استعادة أذربيجان لقرة باغ هو تحرير لأرض إسلامية، وهو أمر يدعو إلى الفرح والسرور بلا ريب، ولكن ما يؤلمنا هو قيام حكام المسلمين في تركيا وأذربيجان بتسهيل إدخال النفوذ الأمريكي مكان النفوذ الروسي في هذه المنطقة الإسلامية العريقة التي فتحت في وقت مبكر أيام الخلافة الراشدة في عهد الخليفتين عمر وعثمان رضي الله عنهما.
رأيك في الموضوع