ذكرنا في الحلقة السابقة بعض الأعمال والسياسات من الضغوطات التي تمارسها أمريكا على حكومة نتنياهو والائتلاف الحاكم معها، وذلك بطريق مباشر وغير مباشر؛ أي عن طريق عملائها من الحكام. وذكرنا قبل ذلك سياسة الإغراءات والعروض التي تعرضها من أجل التهدئة، وإرساء أسس من التفاهمات لتنفيذ الحلول السياسية لقضية فلسطين؛ وذلك عندما تتفرغ لذلك. فهل ستنجح هذه السياسات والأعمال في تحقيق ما تريده، أم أنها ستمضي في تعنتها وصلفها وأعمالها الإجرامية ضد أهل فلسطين؟ وما النتائج في حال تطور الأمور إلى الأسوأ؟ وقبل أن نجيب عن هذا السؤال لا بد أن نستعرض بعض الأمور منها:
1- لقد شهد رب العزة جل جلاله أن يهود أهل فساد وشر، وقوم غدر وخيانة، وفي الوقت نفسه أهل طمع وغرور، ويحبون الدنيا ويتمسكون بها، ولا يعطون الناس نقيرا. قال تعالى في وصف عداوتهم وتنافرهم: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾، ويقول في فسادهم وإفسادهم في الأرض: ﴿...كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾، ويقول كذلك في صفة البخل والتمسك بالأموال والثروات: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً﴾، ويقول في نكثهم العهود: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ ومن كانت هذه صفاته فإنه لا يرقب في بشر إلا ولا ذمة، ولا يحافظ على عهود ولا وعود، ولا يحب أن يعطي شيئا وقع تحت يديه، إلا إذا أُجبر على ذلك بالقوة. فليس من السهل أن يتنازل يهود عن شيء من أرض أو غيرها إلا بقوة السلاح، وغير ذلك عبثٌ وإضاعة للوقت والجهود.
2- إن أمة الإسلام منذ عهد المصطفى ﷺ تعاني من دسائس يهود، ومن كذبهم وغدرهم وخياناتهم المتكررة، ولم ينفع معهم إلا السيف. وهذا ما فعله ﷺ، ووصى به بعد موته، وأكمله عمر رضي الله عنه فأخرجهم من كل جزيرة العرب. والمسلمون اليوم يكرهون يهود، ولا يقبلونهم أبداً، لا في عهد ولا وعد ولا تطبيع ولا انفتاح ولا سلام. وقد أكّد هذه الحقيقة رئيس وزراء كيان يهود في أكثر من مناسبة كان آخرها عندما ألقى خطابا أمام الكنيست في الذكرى الأربعين لمعاهدة كامب ديفيد؛ حيث قال: "لقد ظل السلام باردا مع الشعوب طوال أربعين عاما، رغم توقيع معاهدات سلام مع بعض الحكومات". فاليهود سيبقون جسما مرفوضا في محيط إسلامي كما قال بن غوريون عند تأسيس كيانهم. لذلك لن يهدأ الصراع أبدا لا داخل فلسطين ولا في المحيط، ولن تقبل معاهدات التطبيع مع الشعوب، ففي كتاب "دولة بأي ثمن" للصحفي اليهودي توم ساغيف، ويحكي فيه مواقف وحياة بن غوريون، جاء فيه بعض الأقوال والمواقف لبن غوريون منها: "إن الدولة العبرية ستظل عُرضة للتهديد بالإبادة طوال وجودها في المنطقة، وبأن العرب لن يقبلوا بوجودها"، و"احتلت علاقة اليهود بالعرب مساحة واسعة من اهتمامات بن غوريون، فإذا كان السلام محوراً مهماً، شغل ولا يزال يشغل الجانبين، فإن الرجل العجوز اعتبر، قبل وقت طويل، أن الجميع يدرك صعوبة هذه العلاقة، ولكن الجميع يغض الطرف عن استحالة إيجاد حلول". و"لا يوجد حل. هناك هوَّة في العلاقة بين الطرفين، لا يمكن تفاديها". فمسألة السلام هي فكرة وهمية ولا يمكن تحقيقها أبدا ما دام المسلمون يقرؤون القرآن، ويدركون معنى اغتصاب يهود لأرض الأقصى والمسرى، وما داموا كذلك يرون ما يحدث لأهل فلسطين كبرهان عملي على سجايا يهود.
3- الحركة الصهيونية العالمية (وهي حركة سياسية يهودية، ظهرت في وسط وشرق قارة أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر)، تمثل أطماع يهود داخل فلسطين وفي المحيط. فيهود يتطلعون للسيطرة على كامل فلسطين، ومنها المسجد الأقصى المبارك، وبالإضافة لذلك فلهم أطماع دينية. فالحركة الصهيونية سميت بذلك نسبة إلى جبل صهيون، وهو جبل القلعة؛ لأن كلمة صهيون هي القلعة في التاريخ. وقد حددت الحركة الصهيونية أهدافها في المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897 في مدينة بازل بسويسرا وجاء في إحدى قراراته: "هدف المؤتمر هو وضع حجر الأساس لوطن قومي لليهود"، وجاء في كتاب الدولة اليهودية لهرتسل، عندما تحدث عن المؤتمر الصهيوني: "لو طلب إليّ تلخيص أعمال المؤتمر فإني أقول: إنني قد أسست الدولة اليهودية". فكيان يهود هو كيان يمثل أطماع الحركة الصهيونية العالمية، ويسعى إلى تحقيق أهدافها في الواقع، ومن ضمن هذه الأهداف تفريغ كامل فلسطين من أهلها والسيطرة عليها. يقول جوزيف وايتس، رئيس قسم المستعمرات في الوكالة اليهودية سنة 1940: "يجب أن يكون واضحاً فيما بيننا بأنّ لا مكان لشعبين في هذا البلد. نحن لن نحقق أهدافنا مع وجود العرب في هذا البلد الصغير. لا يوجد غير حل واحد وهو ترحيل العرب، كل العرب، إلى البلدان المجاورة، ويجب ألا تبقى قرية عربية واحدة، ولا قبيلة واحدة". أما بن غوريون، وهو أول رئيس وزراء لكيان يهود ومن المؤسسين له، فقال سنة 1948: "يجب أن نطرد العرب ونأخذ مكانهم".
4- السياسات التي تمارسها أمريكا مبنية على الظلم والبراغماتية والمصالح، وليست مبنية على أي قانون، حتى القوانين الدولية قد تنصلت منها لإرضاء يهود. فأمريكا اليوم هي سيدة العالم، وهي التي ترسم السياسات وتقررها في منطقة الشرق الأوسط. وهي تتعامل مع قضية فلسطين من منطلق النظرة النفعية المصلحية. فقد رأت، على سبيل المثال، في فكرة الانفتاح والتطبيع بين البلاد الإسلامية وكيان يهود أنها تخدم فكرة السيطرة على كيان يهود، وفي الوقت نفسه السيطرة على الدول العربية القريبة منه. وقد نظرت أيضا للمستوطنات في فترة سابقة أنها تهدد مشروع حل الدولتين، والآن أصبحت تغض الطرف عنها، وتطالب بعدم إنشاء مستوطنات جديدة... وهكذا فإن الأمور في نظرة أمريكا تخضع لتطورات الوقائع على الأرض ولنظرتها لمصالحها.
5- الأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية أنظمة مهزوزة ومهزومة أمام توجه الأمة وعقيدتها؛ لذلك فإن أي اهتزاز في المنطقة المحيطة بكيان يهود سوف تضعه في مواجهة الأمة مباشرة، ولن تستطيع هذه الأنظمة حمايته أمام هجمة الأمة لتحرير فلسطين. وهذه القضية يفهمها يهود بشكل جيد، وهي أن مصير كيانهم مرتبط بوجود هذه الأنظمة.
وفي الختام نقول: لقد شهدت هذه البلاد أكثر من احتلال خلال حقب التاريخ؛ من الصليبيين إلى المغول إلى الإنجليز، ثم يهود، وكانت سببا في عودة الأمة ووحدتها؛ بسبب نظرة الأمة لهذه الأرض؛ خاصة أنها جزء من عقيدتها، وفيها المسجد الأقصى المبارك. ولن تنجح أي مباحثات أو لقاءات مع يهود؛ بسبب الأوضاع السياسية أولا في كيان يهود، وعدم وجود حكومة قادرة على اتخاذ قرار كهذا. والأمر الثاني: هو الأحداث العالمية وعدم تهيؤ الأجواء لإيجاد حلول بخصوص قضية فلسطين لانشغال أمريكا عن ذلك. ومجريات الأحداث تدلل على أن الأمور نحو التصاعد، وليس نحو الهدوء بسبب ما تقوم به حكومة يهود، وهذا يقتضي مزيدا من الضغوطات الأمريكية على كيان يهود داخليا وخارجيا. وأمام ضعف نتنياهو السياسي فإنه سيلجأ إلى التنفيس في الداخل والخارج من أجل المحافظة على ائتلافه الحكومي.
وفي النهاية نقول إن هذه البلاد لن تشهد سلاما، ولا استقرارا ولا هدوءاً؛ بسبب الصراع الدولي وبسبب يهود وأطماعهم وسياساتهم، وبسبب موقف الشعوب المسلمة من الأرض المباركة. وقد وعد رب العزة جل جلاله في أكثر من آية أن هذه الأمة ستعود لتقضي على فساد يهود، قال تعالى: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾. ويقول ﷺ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تُقاتِلُوا اليَهُودَ، حتَّى يَقُولَ الحَجَرُ وراءَهُ اليَهُودِيُّ: يا مُسْلِمُ، هذا يَهُودِيٌّ وَرائي فاقْتُلْهُ». فنسأله تعالى أن يعجل بوحدة هذه الأمة الكريمة في دولة واحدة تحت راية واحدة تعلن الجهاد على كيان يهود فتخلعهم كما خلعت الصليبيين والمغول من قبل. اللهم آمين
رأيك في الموضوع