إن معركة ملة الكفر مع أمة الإسلام لم تنته بتداعي قوى الكفر على الدولة الإسلامية لإسقاطها مطلع القرن الماضي، بل كانت تلك هي الخطوة الأولى اللازمة لإبعاد الإسلام وأحكامه عن التأثير في الموقف الدولي والتحكم في السياسة الدولية، ثم محاولة السير بالأمة نحو الفناء.
ولما أدرك الكفار المستعمرون قوة الفكرة الإسلامية وقدرتها على صناعة رجال دولة وخطورة حملها في الطريق السياسي، سارعوا إلى تنصيب عملاء في بلاد الإسلام يفرضون سياساتهم وينوبون عنهم في معركة الأفكار، فيمهدون لهم طريق الغزو الفكري والثقافي لأمة الإسلام بتزيين كفرهم وفسادهم وفجورهم، ونعته بالتقدم والحداثة والتنوير، وربما إلباسه لبوس التقوى، واعتبار ما سواه تخلفا ورجعية وظلامية، وذلك حتى تفقد الأمة طريقتها في التفكير وتضيع بوصلتها وتحيد عن طريق نهضتها، فلا تهتدي لطريق الثورة الفكرية السياسية على أساس الإسلام.
وتتالت على الأمة هجمات قوية تشككها بمبادئها وثوابتها وتفتنها عن دينها إلا من رحم ربي. ولم يقف الأمر عند المعركة الحضارية في ميدانها الفكري، حيث تلقت الرأسمالية لاحقا ضربات موجعة كشفت قبح وجهها أمام نور الإسلام الساطع، فصارت ترقص رقصة الديك المذبوح من خلال التطاول على الإسلام ومقدساته. نعم، لم يقف الأمر عند ذلك، وإنما راح الكفار يباشرون محاربة إنهاض المسلمين وعودة دولتهم، بالوقوف في وجه بث الأفكار الإسلامية في الطريق السياسي، وبوضع كل الأرتجة والمزالج وراء الباب الوحيد للتغيير الجاد على أساس الإسلام، وفتح كل الأبواب الأخرى أمام أبناء الأمة، أفراداً وجماعات، وقد تطلب ذلك خوض معارك سياسية وحتى عسكرية وصناعة إرهاب يشوه صورة الإسلام، من أجل تثبيت الأنظمة الوظيفية التي تنوب عن الاستعمار في المهمة القذرة نفسها التي قام بها كفار قريش زمن النبوة، وهي الوقوف في وجه حمل الدعوة الإسلامية في الطريق السياسي، كي لا تكون كلمة الله هي العليا.
وها هي رأس الكفر أمريكا تسابق الزمن في زرع القواعد العسكرية وتأسيس التكتلات وإنشاء التحالفات ووضع جميع الخطط والاستراتيجيات التي تحول دون قيام الخلافة، بعد أن سكنها هاجس عودة الإسلام السياسي إلى المسرح الدولي، وصارت تخشى من خروج المارد الإسلامي من القمقم أكثر من أي وقت مضى، وهي تدرك تمام الإدراك أن هذا المشروع متى نجح أمكن له أن يجمع المسلمين، مع كامل إمكاناتهم وطاقاتهم وثرواتهم ضمن دولة جامعة مانعة، ستحرك جيشا نحو تحرير الأقصى واجتثاث كيان يهود، وتزيل كل أشكال الاستعمار بإذن الله.
ولذلك لم تدخر جهدا هي وغيرها من دول الكفر في محاولة إخفاء الحالة الإسلامية التي تريد التغيير على أساس الإسلام في مرحلة ما بعد الثورات، وفي محاولات حرفها عن مسارها الطبيعي، بل اتهم الإسلام السياسي بأنه يحاول خطف الثورات، ثم اتهم بالفشل الذريع بعد استبعاد الإسلاميين الذين تخلت عنهم الدوائر الغربية نفسها التي جاءت بهم إلى الحكم. وكلها أساليب خبيثة ماكرة اعتمدها الغرب من أجل اقتلاع ذلك التوجه المتـأصل في الأمة، والذي ينشد التغيير على أساس الإسلام. ثم ها هو اليوم، يحاول عبر أعوانه من أشباه الحكام صياغة تاريخ جديد للأمة وتشكيل هوية جديدة لها بعيدا عن الإسلام وأحكامه.
نعم، ها هي أمريكا التي قال رئيسها ذات يوم "نحن أمة شاذة"، تريد اليوم أن تشرف على توجيه العقل الجماعي لخير أمة أخرجت للناس، وأن تقوم بتخدير أبنائها وفق متطلبات حضارة الفسق والفجور والشذوذ الفكري والسياسي وحتى الجنسي، معولة في ذلك على حكام خونة، أمثلهم طريقة من يدّعي حراسة بلاد الحرمين والأرض المباركة. فكيف للأمة أن تستفيق من غفلتها وأن تنهض من كبوتها وهي مكبلة بأغلال الاستعمار وقيوده، ومطوقة بعملائه وجنوده؟!
إن القضية الأساسية اليوم، أمام الهجمة الحضارية والحرب الصليبية على أمة الإسلام، هي إعادة الثقة بأفكار الإسلام وأحكامه باعتبارها أفكاراً وأحكاماً إسلامية، عبر خطاب عقائدي واضح، يربط الفرع بالأصل، وينزل الأفكار والأحكام على الوقائع الجارية والمشاكل اليوميّة، حتى يهتدي الناس إلى سبيل خلاصهم، ويلتفوا حول الإسلام عقيدة ونظاما ومنهج حياة.
وليست القضية إعادة الثقة بأفكار الإسلام وأحكامه باعتبارها نافعة أو ضارة أو باعتبارها حلا يمكن أن يُستفتى فيه الناس ديمقراطيا، فضلا عن حصر قضايا المسلمين في رغيف خبز يسعى البعض لتحصيله مقابل الخضوع والخنوع والاستكانة والسكوت عن تطبيق أنظمة الكفر. ولذلك فإن تحرير الأمة يبدأ بالضرورة من تحرير عقول أبنائها بالإسلام وتخليص هذه العقول من لوثات الفكر الغربي الفاسد. عندها ستقوم الأمة بنفض غبار الذل والهوان ونزع الأغلال والقيود بنفسها، ما دامت قد تحررت فكريا وأبطلت مفعول التخدير الذي أوجده أعداؤها. فلا عزة ولا كرامة إلا بالإسلام في دولة الإسلام. قال تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
أما الطريقة العمليّة لذلك، فهي ضرب علاقات قائمة قد أتى بطلانها وفسادها من وجهة النظر التي انبثقت عنها، فكان حتمياً أن يكون الضرب لهذه العلاقات القائمة، أي للأفكار والأحكام التي بها يرعى الحكام شؤون الناس ويعالجون مشاكلهم، ضرباً لأفكار كفر وأحكام كفر، بوصفها كفراً، بأفكار وأحكام إسلامية، بوصفها إسلامية ليس غير. فلا مجال لترك العلاقات على ما هي عليه وإيثار السلامة، ولا مجال لضرب العلاقات بأفكار وأحكام بوصفها نافعة أو بوصفها مجردة عن الواقع، بل بوصفها إسلامية فحسب، تعالج هذا الواقع.
حينئذ يلمس الناس فساد النظام القائم وصلاح حكم الإسلام، وبذلك تنطق الوقائع الملموسة والحوادث الجارية بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها، فإذا تكرر ذلك أي تكرر ثبوت صحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وجدت القناعة بها وتولدت عن هذه القناعة الثقة بها وحدها دون سائر الأفكار والأحكام الموجودة في العالم.
هذه هي الطريقة التي تجعل الوقائع والحوادث تنطق بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها، وهي الاشتغال بالسياسة على أساس الإسلام أي ببث أفكار الإسلام وأحكامه على الأساس السياسي، وبعبارة أخرى حمل الدعوة الإسلامية في الطريق السياسي.
من هنا ندرك السر في الحملة التي يقوم بها الكفار بواسطة المأجورين من بني جلدتنا لإبعاد المسلمين عن السياسة وتنفيرهم منها وجعلها تتناقض مع سمو الإسلام وروحانيته. وندرك السر في محاربة الدول الكافرة والحكام العملاء للجماعات الإسلامية السياسية، لأنها تدرك أنها هي وحدها التي تنهض الأمة وتقيم الدولة وتضرب الكفر وترجع مجد الإسلام، بل لأنها تدرك أنه لن تعود ثقة الأمّة بالإسلام ولن تنهض ولن تقام الخلافة إلا بالاشتغال بالسياسة على أساس الإسلام، ومن أجل ذلك تحاربها وتنفّر المسلمين من السياسة بشتى الوسائل والأساليب.
فقضية إنقاذ الأمّة الإسلامية من الفناء هي إعادة ثقتها بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها وصلاحيتها عن طريق جعل الوقائع والحوادث تنطق بهذه الصحة وهذا الصدق لتحصل القناعة التامة بذلك، أي عن طريق حمل الدعوة الإسلامية في طريقها السياسي، ولا يتأتى ذلك إلا بالعمل لإيجاد الخلافة عن طريق بث الأفكار الإسلامية والكفاح في سبيلها، وهذه الطريقة هي التي أوجَد بها رسول الله ﷺ الأمّة الإسلامية والدولة الإسلامية، فهي فوق كونها واقعاً ملموساً يحمل المرء على أن يسلكه ولا يسلك سواه، فإنها حكم شرعي يجب التقيد به ويجب أن يُحصر السير بحسبه ولا يصح أن يُسلك سواه، ومن هنا كانت هذه الطريقة وحدها هي التي يجب أن يسلكها المسلمون.
فالعمل الوحيد الذي يجب على المسلمين اليوم أن يقوموا به قبل أن يقوموا بأي عمل آخر هو إقامة الخلافة، وطريقة ذلك ثورة فكرية سياسية تدمّر الأفكار الباطلة وتنسف أسسها العقائدية، كما تحطم الحكم الفاسد وتطيح بعروش الظالمين.
هذا هو سبيل خلاص الأمة وهذا هو الذي يعيدها إلى تبوؤ مكانتها الطبيعية بين الأمم وإلى التحكم في الموقف الدولي، فلا تبقى في حالة من التبعية كالكرة تتقاذفها الجهات الاستعمارية، وإنما تسطر تاريخا جديدا بالإسلام يبدأ بميلاد الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع