بعد خمسة أشهر من الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، يخرج البرهان من القيادة العامة بعد أن ملأت قيادات الدعم السريع وجنودهم الفضاءات والأسافير الإلكترونية والقنوات الإعلامية، أنهم يحصون أنفاس الرجل ولن يخرج إلا مستسلما أو إلى مثواه الأخير.
لقد كان خروج البرهان من مخبئه إشعارا وإنذارا بأن الحرب تكاد تضع أوزارها، وأن من أشعلها أراد لها إخراجا وخاتمة، فقد آتت أكلها، والأدلة والشواهد على ذلك كثيرة منها:
خروج البرهان من القيادة العامة، بعد أن اختفى الحديث عن المدنية، وتوقف المسيرات والمواكب المطالبة بمحاسبة العسكر على جرائمهم في فض الاعتصام، وقتل المتظاهرين، وبعد أن اختفى الحديث عن الاتفاق الإطاري من على الساحة السياسية أو كاد، وبعد أن كانت بعض الأحزاب تنادي بتغيير الحكم العسكري ومحاسبة العسكر، أصبح المطلب الوحيد هو تحقيق الأمن بوقف الحرب.
إلا المخلصين الذين يعملون لتحقيق مشروع جاد للتغيير على أساس الإسلام في دولته، دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، هم وحدهم من ثبتت رؤاهم، ومواقفهم قبل وأثناء الحرب، وبعد الحرب.
لقد خرج البرهان من القيادة العامة بعد أن أصبح الجيش هو اللاعب الأساس في المشهد السياسي في السودان، فعلى حسب اللعبة الديمقراطية، فإن الحكومة هي العسكر، والمعارضة كذلك هم العسكر (الدعم السريع)، وكلا الفريقين يتحدث عن الديمقراطية، وهي المرة الأولى التي كان فيها الطرفان صادقين، فالديمقراطية في حقيقتها هي حكم المتسلطين، وسيطرة أصحاب رؤوس الأموال، أما بقية الشعب فليس له إلا أن يسمع ويطيع ويتبع، منشغلا فقط بشهوتي البطن والفرج، فلا مجال لأي حديث أو عمل جاد لتغيير نظام الحكم.
خرج البرهان بعد أن استبيحت الخرطوم كلها، من شمالها في الجيلي، إلى غربها مرورا بأم درمان إلى المويلح، وحتى القرى في طريق بارا، وبارا نفسها لم تسلم، وحاضرة شمال كردفان، مدينة الأبيض ومدينة امروابة، إلى إقليم دارفور، ليشمل كل غرب السودان. أما شرق الخرطوم وجنوبها حيث الخراب والدمار لكل شيء، فلم تسلم الأرواح ولا الأعراض ولا البيوت ولا الممتلكات من ويلات الحرب، إلا ما أعمى الله أبصارهم عنها، أو دخلوا بيتا بحضور صاحبه، أو كان صاحبه منهم.
بعد خمسة أشهر نزح أغلب سكان الخرطوم، فمنهم من فر من نيران القذائف، ومنهم من فر خوفاً من اعتداءات الدعم السريع الوحشية، ومن بقي من سكانها أصبحوا غريبين عن مدينتهم، يمشون مطأطئي الرؤوس إلى السوق أو المسجد إلا من رحم الله تعالى، فلا مجال لأي شيء سوى الحصول على طعام حلال، أو حراسة بيتك من السطو المسلح، ولو أراد ناهبوك وأنت فيه لفعلوا وهم مدججون بالسلاح، بعد أن ملئت الخرطوم عن بكرة أبيها بقوات غريبة الأشكال والأطوار، يقتلون لأتفه الأسباب، وينهبون أي شيء حتى أكواب الشاي والقهوة، يزعمون أنها غنائم حرب!
بعد خمسة أشهر يقول الجيش إنه استخدم أسلحة رادعة للحسم العسكري ضد الدعم السريع، ولكن كثرت شكوى الناس أن قذائف طائرات الجيش ومدافعه دوما تضل طريقها إليهم، فتوقع فيهم القتلى والجرحى وتظل ارتكازات الدعم السريع المعلومة منذ أشهر هي هي، لم تتغير قيد أنملة ولم يصبها سوء!
أما قرار حل قوات الدعم السريع الذي أصدره البرهان بعد خروجه، وقرار بنك السودان بتجميد أرصدتها، وقرار أمريكا بعقوبات مالية على بعض قادتها، فلا يغير شيئا على الأرض سوى أن الحرب قد آتت أكلها وحققت أهدافها. فقد جاءت القرارات متأخرة وضعيفة، يؤكد ذلك تصريحات البرهان أنه سيقضي على التمرد، بينما التمرد يزداد قوة وسيطرة على الخرطوم، وتزداد ارتكازاته فيها بشكل لافت.
لكن اللافت حقا أن الفريقين لا يقاتلان من أجل حماية الأعراض، ولا الأموال، فقوات الدعم السريع تنهب وتقتل وتنتهك الأعراض، وتدنس المحرمات، في حين إن الجيش قابع في ثكناته، يطلق قذائفه التي تصيب الأبرياء الذين بقوا أمام خيارين، إما الهروب وترك حصاد العمر من بيوت وثروات للنهب والتدمير وتحويلها إلى ثكنات، أو أن يبقى في بيته تحت براميل الطيران وقاذفات المدافع المحمولة جوا تدمر وتمسح فترمل وتيتم.
ليس غريبا أن يعلم كل متابع للمشهد السياسي في السودان أن هذه الحرب كانت بترتيب وإشراف أمريكي قذر وخبيث لتحقيق أجندتها وكسر شوكة منافسيها الأوروبيين، خاصة عملاء بريطانيا المدنيين، فهذه الحرب ترعاها أمريكا فهي لعبتها اللعينة. وأكبر شاهد أن تصريح إطالة أمد الحرب كان على لسان وزير الخارجية الأمريكي بلينكن.
إن رجال أمريكا (العسكر) هم الذين يسيطرون على الحكم في السودان، فمنذ سقوط البشير عميل أمريكا الذي كلفته بفصل الجنوب تولى البرهان وحميدتي السلطة وما زالا فيها إلى اليوم يتصارعان لتحقيق الأجندة التي كلف بها البشير، ومنها تمزيق السودان. إضافة إلى أهداف عدة تحققت ذكرناها في صدر هذه المقالة. وقد كانت قراءة أمير حزب التحرير العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة لأحداث حرب السودان موفقة وسديدة، كما ذكر في جوابه العميق المستنير الراقي على سؤال عن هذه الحرب بتاريخ 25/4/2023م، فالغرض منها كان إقصاء عملاء بريطانيا (المكون المدني من الحرية والتغيير وغيره)، ومع أن هذا تم أو كاد، ولكن سابقة الانقلاب على الوثيقة الدستورية وانكشافه للناس يجعل أمريكا وأعوانها هذه المرة يطيلون أمد الصراع إلى حد ما، ولكن من باب الكر والفر وليس الحسم، وذلك لتحقيق أحد الأمور التالية:
أ- إذا رأت أن الأفضل لها عقد اتفاق جديد بين عميليها البرهان وحميدتي عقدته، ومن ثم تدفع الاتفاق الإطاري مع القوى التابعة للأوروبيين إلى الخلف، فتصبح تلك القوى هامشية أمام عملاء أمريكا الذين يرسمون واقعاً جديداً في السودان.
ب- وإذا تعذر دفع القوى الموالية لأوروبا للخلف فإن أمريكا لا تأبه بتقسيم السودان بعد أن سلخت عنه الجنوب، فتقوم بسلخ الغرب ودارفور وتولي عليها حميدتي، إذ إن سيطرته في تلك المناطق راجحة، خاصة وأنه يهيمن على منجم الذهب هناك.
ج- وإذا اصطفت تلك القوى التابعة للأوروبيين خلف أحد عملاء أمريكا اصطفافاً من باب المناورة. فإن أمريكا قد تطلب منه أن ينزوي ويسلم بسيطرة العميل الآخر ليقود التصعيد العسكري في السودان لإحباط ذلك الاصطفاف.
وسبحان الله العظيم، فقد تجلت هذه القراءة السياسية الحكيمة، وانكشف للناس حجم الجرائم التي يرتكبها العملاء، فحري بمثل هذا الفكر والعمق أن يصل إلى الحكم، ليقيم أصحابه أحكام الإسلام، في دولة تقيم الإسلام وتطبق شرعه، خلافة راشدة على منهاج النبوة. فهلا استجاب المخلصون أهل القوة والمنعة في السودان لهذا العمل العظيم؟
* مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع