يسعى الغرب لتحقيق هدف كان حلم به منذ قديم عصره إبان حكم القياصرة والأباطرة، ألا وهو طمس معالم الإسلام والقضاء عليه برمته. وتعلم من حروبه الصليبية ألا نصر له على الإسلام وهو حي في أذهان معتنقيه، إلا أنه لم يعلم للقضاء عليه سبيلاً. ثم هبت رياح التغيير الفكري في أوروبا وظهرت العلمانية وبزغ نجمها واشرأبت لتحقيق هدف الأجداد للقضاء على منافسها الوحيد وقتها ودولته، فأعملت معاول الهدم في صرح الأمة بادئةً بنشر بذور التشرذم، أي فكرة القومية، وشَفَعَت ذلك بعد القضاء على الخلافة العثمانية بعقيدة فصل الدين عن الحياة توسلاً منها لتحقيق الهدف بعد انتظار دام ألفية ونصف الألفية.
كان للانبهار بالغرب ومنجزاته العلمية والتقنية وغيرها أبلغ أثر في اقتناع فئة من أبناء المسلمين بأهمية تبني ما يتبناه الغرب للحاق بركبه، إلا أن هذه الفئة كانت من قلة العدد بمكان أن أثرها كان في حكم العدم، فبقي المسلمون يحملون دينهم عقيدةً وأحكاماً، وبقي الغرب يخطط للنفوذ إلى عقولهم وقلوبهم وإحلال الرأسمالية محل الإسلام وبناء شخصيات رأسمالية تؤمن بمقولة "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
ومصداقاً لحديث النبي ﷺ إذ قال: «سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثاً، فأعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً؛ سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتي بالسَّنَةِ فأعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتي بالغَرَقِ فأعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا» رواه مسلم، رأينا كيف أن الغرب نجح أيما نجاح عندما أوكل مهمة علمنة الأمة الإسلامية إلى من يصدق فيهم وصف النبي ﷺ: «دُعَاةٌ إلى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَن أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا... هُمْ مِن جِلْدَتِنَا، ويَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنَا» رواه مسلم. وهم أصناف ثلاثة: الساسة والمفكرون والعلماء. وإليكم شيئاً من التفصيل في هذا الموضوع:
الساسة: عمل الساسة - سواء في بلادنا الإسلامية أو في الغرب - على تنفيذ مشروع العلمنة الغربي من خلال المناهج التعليمية ووسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة التي تضع السم في الدسم وتطمس معالم العقيدة الإسلامية وأحكامها من خلال زرع مفاهيم كفر في أذهان أهل الإسلام، مغلفةً هذه المفاهيم بغلاف الإسلام، فالفردية والأنانية تصبحان تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾! والكف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يضحي إعمالاً لقوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾! بل أمست العلمانية ذاتها تجسيداً لقوله ﷺ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» رواه مسلم!
وأكرم الساسة من اقتفى أثرهم سائراً إلى حتفه، علم أم لم يعلم، فقلدوه المناصب وجعلوه من أصحاب الرأي المسموع والقلم المقروء. وعادوا بعكس ذلك على من خرج من (بيت الطاعة) فكان حاله مصداق قوله ﷺ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» رواه الترمذي، وها هي قلاع الظلم أي المحاكم ومعاقل التعذيب خير شاهد على ذلك، فكم من خَيِّر دَيِّن حبسته ظلمات الظَّلَمة عن انتفاع الناس بعلمه وتنعم أهله به!
ولا يصح أن ننسى إضافةً إلى ما سلف أن الغرب أوجد أديان كفر انبثقت من رحم الأمة الإسلامية، كما فعلت بريطانيا في بلاد الهند إبان احتلالها لها وفَرَّخَت لنا البهائية والأحمدية ومنكري السنة قبل نحو قرنين من الزمان.
ولا فرق في هذه النقطة بين شرقٍ وغربٍ فكلاهما في الشر سِيَّانِ، فما هما إلا وجهان للعملة نفسها، إلا إذا استثنينا جريان التعذيب خارج حدود الغرب حفاظاً منه على شعاراته التي أكثر من الجعجعة عنها والتشدق بها. أما ترويع الآمنين وتخويف العباد ومحاربتهم في أرزاقهم والتضييق على حملة الدعوة فلا كبير فرق بينهما.
المفكرون: كان للمفكرين في البلاد الإسلامية من ذوي التبعية العمياء والببغائية الصماء لأولي النعمة في لندن وباريس وغيرهما أثر سيئ في تشويه مفاهيم الإسلام ومحاربة ما نزل على قلب خير البشر سيدنا محمد ﷺ من وحي صحيح لا يشوبه من الشوائب العقلانية شيء. فعمدوا إلى قلب الحقائق وتزييفها، فصار الجهاد بذل الجهد في استقصاء الخير، وأضحت الدعوة مناشدة الفرد للأفراد لدخول الدين، وعدم العمل على تغيير الواقع البائس؛ ما يعني عملياً الرضا بحكم الياسق العصري، أي الأحكام الوضعية، وغدت الجزية أمراً اندثر مع حقبته الزمنية وملابساته التاريخية، وبات وجوب الحكم بشرع العليم الخبير محل مساومة ونظر؛ بل تناول بعضهم أحكاماً لا يجرؤ الغرب الكافر على تناولها بالتجديد، كأحد الهَلْكى الذي افترى فأباح أغلب حالات الزنا وقَصَرَ عورة المرأة على مواطن العفة منها!!
أما مفكرو الغرب الكافر فهم لا يفتؤون يقتنصون الفرص، بل صنعها، لتحريف الإسلام في أعين أبنائه، وما آخر بدعهم ما أسموه (إسلام غير المسلمين)، أي فهم غير المسلمين للإسلام!
العلماء: قال عبد الله بن المبارك: "وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ... وأحـبارُ سـوءٍ ورهبانُها"، وصدق فيما قال؛ إذ كان لعلماء السلاطين أثر بالغ السوء في عدم الضرب على يد محرفي دين رب الأرباب بيد من حديد، بل كان لبعضهم دور في عملية التحريف، فكانت العاقبة اقتراب بعض الأحكام من حالة الاندراس، فأغلبهم ساكت عن غياب الشريعة عن حياة المسلم فرداً ومجتمعاً ودولةً وانقسام المسلمين إلى دول متناحرة فيما بينها واستشراء الفساد بجميع أنواعه واستئثار المجرمين الفجرة بمقدرات الأمة، وأغلبهم يرى الديمقراطية والدولة المدنية حلاً وينسى الخلافة أو يجهلها، ومنهم من لا يعتبر (الإخوة) النصارى واليهود الموادعين كفاراً فلا يبرأ ممن أمر الله بالبراءة منهم، وهكذا دواليك!
فكان لسكوت العلماء عن تبيان الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انعكاس سلبي جسيم على جلاء عقيدة الإسلام وأحكام الشريعة الغراء في الأذهان، ولم يكن مستغرباً أن يلهج كثير من أبناء الأمة الإسلامية بمدح الديمقراطية وبالتشوق لرؤيتها واقعاً ملموساً في البلاد الإسلامية، بعد أن كان الإسلام بوصلة المسلمين ومقياس أعمالهم ومنهاج حياتهم ونور بصيرتهم.
فكان لزاماً لجلاء الإسلام وتبلوره في الأذهان ورسوخه وثباته في النفوس أن تعود دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي بشر بها الرسول ﷺ كي تكفل ذلك وغيره من نشر للإسلام وانتشال البشرية من حَمَأَة الرأسمالية العلمانية وجحيمها وإنقاذها من نار توعد الله بها من كفر به.
نسأل الله تعالى أن تقر أعيننا بنصرٍ منه قريبٍ؛ إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
بقلم: الأستاذ سيد جبلي
رأيك في الموضوع