نشرت صحيفة العربي الجديد بتاريخ 8/4/2023 الإعلان الختامي المشترك للرئيسين الفرنسي والصيني؛ وذلك بعد زيارة قام بها الرئيس الفرنسي ماكرون للصين استمرت ثلاثة أيام. وجاء في الإعلان المشترك: "أن بكين وباريس تدعمان كل الجهود لاستعادة السلام في أوكرانيا، بما يتوافق مع القانون الدولي، وعلى أساس مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة. كما كررت فرنسا دعمها لسياسة (صين واحدة) التي تنصّ على أن بكين هي الممثل الشرعي الوحيد للبرّ الرئيسي وتايوان، وأن الجزيرة جزءٌ لا يتجزأ من الأراضي الصينية". وتابعت الصحيفة: "وتمّ التوقيع على أكثر من عشرين اتفاقية تجارية بين البلدين خلال الزيارة، كما تعهّدت فرنسا بمنح معاملة عادلة للطلبات الصينية للحصول على تراخيص الجيل الخامس، على أساس الأمن القومي". وأثناء عودته من بكين 9/4/2023؛ وهو على متن الطائرة صرح قائلا: "على أوروبا ألاّ تصبح تابعة للولايات المتحدة". وقال: "أوروبا يجب أن تقاوم الضغوط الرامية لتحويلها إلى تابعة للولايات المتحدة. وعليها أن تقلص ارتباطها بالولايات المتحدة. ويجب ألاّ تنجرَّ إلى مواجهة بين الولايات المتحدة والصين بشأن تايوان". وأردف قائلا: "السؤال الذي يتعين على الأوروبيين الإجابة عليه هو هل من مصلحتنا تسريع حدوث أزمة حول تايوان؟!" ثم قال محذّرا "من أن يتحول الأوروبيون إلى تابعين للسياسة الأمريكية في هذا الملفّ... ودعا ماكرون الاتحاد الأوروبي إلى تقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي خارج الحدود الإقليمية".
فما هي حقيقة هذه التصريحات؟ وهل هي الأولى من نوعها تجاه أمريكا؟ وهل تشاركها دول أخرى غير فرنسا هذا الرأي؟ وما الأهداف التي ترنو لها فرنسا وبعض الدول المشاركة لها في الرأي والنظرة السياسية؟
وحتى نقف على حقيقة هذه المواقف وغاياتها لا بد من التذكير ببعض الأمور المهمة في هذه المسألة، والتطورات والتحولات الدولية الجديدة تجاه الحرب الأوكرانية، وموقف أمريكا تجاه الصين، خاصة أعمالها الأخيرة في محيط الصين وتايوان. ومن هذه الأمور:
- أمريكا استخدمت موضوع الحرب الروسية الأوكرانية في أكثر من اتجاه، ولأكثر من غاية أبرزها أولا: محاولة ضرب العلاقات والحلف والشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا. وثانيا: تخويف أوروبا من روسيا لإبقائها تحت جناحها. وثالثا: العمل على تكسير أجنحة روسيا الاقتصادية لاستسلامها وخضوعها لإرادة أمريكا، وسياساتها الدولية. ورابعا: التمهيد لجرّ الصين في هذه الأزمة، واتخاذ مواقف دولية ومقاطعة تجاهها.
- تفاقم الأزمة الاقتصادية الدولية بسبب الحصار المفروض على روسيا؛ سواء في نواحي الغذاء، خاصة الحبوب، أو التضخم الذي سجّل أرقاما عالية في أوروبا وأمريكا حيث بلغت نسبة التضخم في بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا سنة 2022م 7.9% مقارنة بعام 2021. وارتفعت الأسعار بمتوسط 1.3%، ما دفع الحكومة إلى إقرار حزمة المساعدات الثالثة البالغة 65 مليار يورو؛ بهدف حماية المستهلكين والاقتصاد الوطني من تداعيات ارتفاع التضخم. وفي أمريكا قالت وزارة العمل: إن معدل التضخم السنوي ارتفع إلى 8.6% في أيار الماضي. ما دفع الفيدرالي الأمريكي لرفع نسبة الربا أكثر من مرة حتى وصلت سنة 2023 5%. وقد تسبب ذلك في أوروبا وأمريكا في نتائج سلبية على البنوك والمؤسسات الاقتصادية الأخرى، ما أدى لانهيار بنك سيليكون فالي الأمريكي ومعه عدة بنوك أخرى مرتبطة به، وأدى كذلك إلى الركود والكساد وقلة المشاريع.
- الضرر الذي لحق بأوروبا اقتصاديا بسبب انقطاع الطاقة الروسية، وارتفاع أسعار الطاقة البديلة، ما تسبب في ارتفاع الأسعار للصناعات عامة، وإلى نقصان القيمة الشرائية للأجور. وأدى كذلك إلى انكماش عام في المشاريع، ما تسبب في احتجاجات واسعة في بعض دول أوروبا؛ مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا. حتى صارت بعض الأصوات تخرج من سياسيين كبار في هذه الدول تتساءل: ما هي مصلحتنا من هذه الحرب؟ ويجب أن توقف في أسرع وقت. وأدى أيضا إلى صعود اليمين المتطرف إلى الحكم في أكثر من بلد بسبب هذه الحرب، وما ترتب عليها من أزمات، كما جرى في نجاح حزب "ديمقراطيو السويد"، وحزب "أخوة إيطاليا" بقيادة ميلوني، في الانتخابات بالبلدين. وفي المجر تصدّر حزب فيديسز القومي الذي يرأسه رئيس الوزراء، فيكتور أوروبان قائمة الانتخابات. وهناك دول عدة حذت الحذو نفسه في انتخاباتها.
- إن ظهور الصين بمظهر المحايد الذي يسعى لإيجاد الحلول، ودعوتها كذلك للالتزام بالقانون الدولي قد جعل بعض الدول تسير خلفها، وتؤيدها في مشاريعها السلمية لإنهاء الحرب. والمثال الفرنسي الأخير هو شاهد على هذا الأمر. وهذه المسألة شكلت أداة ضغط على سياسة أمريكا، وشكلت لها إحراجات دولية، وصارت تشكل صدعاً في التحالف الدولي تجاه روسيا في حرب أوكرانيا. وتشكل كذلك تخوّفا أمريكيا لأية خطوة جديدة تجاه الصين؛ كونها تسعى وتتصرف ضمن القانون الدولي في مسألة تايوان. وتكشف سياسات أمريكا تجاهها بأنها تخالف القرارات الدولية سواء في روسيا أو تايوان.
- إن طول أمد الحرب، وصمود روسيا طوال الفترة الماضية حوالي العام ويزيد، وتراجع الناحية العسكرية لدى أوكرانيا في الصمود أمام هجمات روسيا، هذه الأمور جعلت أوروبا تفكر جدّيا في مسألة الحلول السياسية رغم معارضة أمريكا لها؛ لأنها باتت تدرك أنه لا يمكن هزيمة روسيا عسكريا في ظل الدعم الصيني الخفي، وفي ظل تمكن روسيا من إيجاد البدائل الاقتصادية للتخفيف من ضغط الحصار الاقتصادي عليها، حيث رحب متحدث باسم الحكومة الألمانية في برلين 24/2/2023 بالخطة الصينية بشأن الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي تدعو فيها إلى وقف إطلاق النار بين الطرفين، وذلك باعتبارها مبادرة جديدة من الصين رغم أنها تفتقر إلى عناصر مهمة. ورحبت أيضا فرنسا بها أثناء زيارة ماكرون إلى بكين في الآونة الأخيرة. وهذه الأمور تشكل ورقة ضغط قوية على سياسة أمريكا تجاه الحرب، وعلى الحلف الدولي الذي شكلته خارج منظومة الأمم المتحدة.
- مسألة القلق الدولي من استخدام السلاح النووي، خاصة أن الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا تزود أوكرانيا بمختلف الأسلحة، ما اضطر روسيا في الآونة الأخيرة إلى نشر منظومة أسلحة تكتيكية في روسيا البيضاء، وفي مقاطعة كلينينغراد على حدود دول البلطيق. وهذه الأمور أحدثت تطورات جديدة عملية في المواجهة العسكرية، كما أنها باتت تنشر الرعب والخوف في كل أرجاء أوروبا المجاورة لروسيا.
- دعوات الصين المتكررة للالتزام بالقانون الدولي، وتذكير العالم خاصة الدول الأوروبية بأن أمريكا تنتهك القانون الدولي في القضايا الدولية؛ مثل الحصار المفروض على روسيا، ومثل دعم تايوان عسكريا، والتدخل في الشأن الداخلي فيها. وهذه الدعوات تلقى آذانا صاغية من دول التحالف الأمريكي، خاصة في ظل تصاعد الأزمة والتهديد النووي والمخاطر الاقتصادية المتدحرجة يوما بعد يوم. فمثل هذه الدعوات تضعف الموقف الأمريكي مع حلفائها وتحدث تصدعات في هذا الحلف.
وبناء على هذه المقدمات والمعطيات والوقائع فإن الصين بدأت في تأليب الدول الأوروبية تجاه أمريكا، واستخدام ورقة القانون الدولي. وكانت مسألة العرض الذي عرضته لإنهاء الحرب الأوكرانية حجة قوية اقتنعت بها كثير من دول أوروبا، بالإضافة إلى قناعة روسيا بها. ورأت روسيا أنها مخرج جيد للخروج أولا من هذا المأزق الكبير دون ركوع لضغوطات أمريكا وحلفها. كما رأت أنه تحجيم لإرادة أمريكا، وكسر لمخططاتها تجاه استعباد العالم. والسؤال هنا هو هل ستنجح سياسات الصين وروسيا في كسر هذا الحلف الواسع الذي شكلته أمريكا من الدول الأوروبية وغيرها ضد روسيا في الحرب الأوكرانية؟
الحقيقة أن موقف فرنسا الأخير مؤشر كبير على أن التحولات الأوروبية الجديدة والمتصاعدة قد باتت تؤشر إلى تصدعات في الحلف الدولي، وأن هذا الحلف قد بدأ يضعف شيئا فشيئا، وأن بروز الصين بمظهر المحايد الذي يسعى للحلول سوف يتعزز يوما بعد يوم؛ خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية والتضخم وغلاء الأسعار، والتهديد والقلق الدولي والخوف من الأسوأ القادم في موضوع الأسلحة النووية. وربما تجد أمريكا نفسها في عزلة دولية إذا كثرت الأصوات المنادية بإنهاء الحرب، وضمت دولٌ جديدة صوتها إلى الصين وفرنسا وألمانيا وغيرها من الدول. وهذا الأمر هو خسارة كبيرة لأمريكا في حال تحققه، وربما يكون بداية طريق جديد لتحالفات مع الصين وروسيا في التصدي لسياسات أمريكا لاستمرارية الهيمنة الدولية على العالم وإيجاد نظام دولي جديد؛ تزاح فيه أمريكا عن عرش التفرد الدولي والهيمنة، وسوق العالم بالعصا الغليظة في خدمة أهدافها وسياساتها. أي يمكن أن يُحدث تغيّرات فاعلة في الموقف الدولي، ويرسم بدايات لموقف دولي جديد.
رأيك في الموضوع