لن أتحدث في هذا التحليل عن الفائز أو الخاسر أو ما هي النسبة التي حصل عليها حزبٌ ما في الانتخابات البرلمانية التركية التي جرت يوم الأحد الموافق لـ 7 حزيران 2015، بل سأقيّم في هذا التحليل الانتخابات البرلمانية الديمقراطية التركية 2015 من جانبين؛ الأول: أن الانتخابات التي جرت لم تكن انتخابات بين الأحزاب المتنافسة فقط، بل هي امتحان للديمقراطية والنظام الذي حكم 90 سنة ونيفاً.الجانب الثاني: هو الربيع العربي الذي شهدته المنطقة خلال السنوات الـ 5 الماضية والثورة السورية التي هي عامل مؤثر على نتائج الانتخابات التركية، وأعتقد أن دول العالم أي الولايات المتحدة والآخرين لن يستطيعوا أن يبقوا محايدين تجاه الانتخابات التركية التي ستؤثر بشكل مباشر على الوضع في سوريا والعراق.
امتحان الديمقراطية
منذ سقوط الخلافة وحتى خمسينات القرن الماضي أُجبر المسلمون من خلال أصحاب الفكر العلماني الكمالي في تركيا على الخضوع لقوانين الغرب بصرامة. ثم نشأت الحاجة إلى إدخال المسلمين إلى البرلمان، وأُنشئت الأحزاب ذات الصبغة الإسلامية بزعامة نجم الدين أربكان بداية، ثم رجب طيب أردوغان، ودخل المسلمون إلى البرلمان، ووصلوا إلى الحكم. وكان واضحاً للجميع أن تركيا في فترات حكم حزب أتاتورك المعروف بحزب الشعب الجمهوري (CHP) في فترة الحزب الواحد، وفي الائتلافات التي شكلها هذا الحزب ذو الطابع اليساري بقيادة بولنت أجاويد؛ عانت من الفقر، وعانى المسلمون من الإقصاء والتهميش والاضطهاد. والكلام نفسه ينطبق على فترة حكم سليمان دميرال.
في مقابل هذا المشهد شهدت تركيا انتعاشاً اقتصادياً في الفترات التي حكم فيها طورغوت أوزال ورجب طيب أردوغان. ولا يغيب عن المتابعين أن السبب الأساسي لهذا هو الدعم الاقتصادي المقدم لهما من قبل الولايات المتحدة، [إلى جانب أسباب أخرى كشكل الفساد مثلاً، بين فسادٍ قائمٍ على إنجازاتٍ ملموسةٍ، وفساد الاختلاسات القائمة على مشاريع وهميةٍ، وبين وزير يسرق دون إنجاز ملموس، وبين وزير يعتبر نفسه شريكاً بطريقةٍ ما لإنجاز ملموس]. لكن الشعب لا يعرف هذا، فهو يحب أوزال وأردوغان كثيراً، ويظن أنهما حاكمان يعملان من أجل مصلحة الشعب، بخلاف الأحزاب الأخرى التي كانت تسلب وتنهب.
لكن هذا السحر انكشف في 17 كانون الأول 2013، ومنذ ما يقارب عامين دارت على ألسنة الناس العمليات التي كشفت فساد أردوغان ومسئولي حزب العدالة والتنمية، واهتزت ثقة الشعب بالنظام أمام مزاعم الفساد التي قام بها شخص مثل أردوغان في تركيا. فإذا كان النهب والرشوة والفساد قد أصبحت سمةً للعلمانيين المعادين للدين أصلاً؛ فإن هذه التهمة الآن تلتصق بمسئولي الحزب ذي الصبغة الإسلامية. وأصبح الرأي السائد بين الناس أن "نواب البرلمان كلهم متشابهون، من يدخل البرلمان ينسى الشعب ولا يفكر إلا في جيبه".
هذا الرأي العام الذي أخذ ينتشر بين الناس أصبح يهدد الانتخابات بسبب فقدان الثقة بالجميع، ودفع بالتالي قادة الأحزاب إلى توجيه نداءاتهم للناس بالإدلاء بأصواتهم، وتذكيرهم بأهمية أصواتهم. ولم يقتصر الأمر على زعماء الأحزاب، فانتشرت الحملات التي تحث على التصويت، وكان مما يميز هذه الحملات انهماك العلماء والشيوخ وقادة الرأي الإسلاميون وممثلو الجمعيات الإسلامية، حتى إنهم ذهبوا إلى أن التصويت في الانتخابات الديمقراطية عبادةٌ وواجبٌ. ومن الغريب أن هؤلاء الذين يمثلون المسلمين يحاولون إنقاذ ديمقراطية الغرب الكافر المحتضرة في تركيا إلى درجة اتهام المسلمين الذين يرون في الديمقراطية نظام كفر بالخيانة. وهكذا كانت هذه الانتخابات على موعد مع اختبار تركيا لنظامها المتعفن بنفسها، ولن يكون أصحاب النظام الحقيقيون راضين عن النتائج حتى تكون مؤسسات الإسلام المعتدل التي أسسها حزب العدالة والتنمية كبش فداء للديمقراطية!.
تأثير الربيع العربي والثورة السورية على الانتخابات
تشكل السياسة الأمريكية في كل من الوضع العراقي والثورة السورية سياسة ضاغطة. وبالتالي من سيحكم تركيا الدولة الجارة لهاتين الدولتين في السنوات الأربع القادمة لن يحددهُ أحدٌ إلا إرادة الولايات المتحدة. والسيادة الأمريكية على الدولة والحكومة التركية ستستمر بازدياد. ولكن كيف ذلك؟
هناك احتمالان [يحققان لأمريكا إملاءاتها]؛ الأول: استمرار حزب العدالة والتنمية (AKP) بتفرده في تشكيل الحكومة، والثاني: دخوله في حكومة ائتلافية مع حزب آخر.
يعد انفراد حزب العدالة والتنمية بالحكم نقطة إيجابية لصالح سياسات الولايات المتحدة في سوريا والعراق. لكن الولايات المتحدة الأمريكية مع أي حزب يمكن أن يكون شريكاً لحزب العدالة والتنمية يحمي هذه الأفضلية، بل يعززها، فأي الأحزاب مرشحة لهذه الشراكة؟
الجواب: هو الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني المتمثل بحزب الشعوب الديمقراطي (HDP). أقول هذا لأن الولايات المتحدة الأمريكية نجحت في استعمال المجموعات الكردية لمصالحها في كل من سوريا والعراق. فعملت مع البرزاني في العراق، ومع الأحزاب الكردية والجناح السوري لحزب العمال الكردستاني في سوريا. وبالتالي أصبح الأكراد رقماً مهماً للولايات المتحدة إلى درجة استخدامهم كبش فداء.
وفي هذه الانتخابات عاملان مهمان؛ حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) في صعود، وحزب العدالة والتنمية في تراجع.
وهنا يجب أن لا ننسى أن كل شيء يُنسى بعد الانتخابات، ويمكن للحزبين أن يجتمعا، ويشكلا حكومة ائتلاف، وذلك بمقدار ما تمليه أمريكا... ومن المفيد هنا أن لا ننسى أيضاً التعاون القذر بين حكومة حزب العدالة والتنمية وعبد الله أوجلان في ما سمي "بعملية الحل" التي تنطوي على توجيه ضربة للثورة في سوريا قبل عدة شهور إرضاءً للولايات المتحدة الأمريكية.
بقلم: محمود كار
رأيك في الموضوع