"لم يسبق أن رأيت هذا العدد من الزيارات على مثل هذا المستوى الرفيع في أي إدارة كانت، هذا غير مسبوق"، هكذا وصف آرون ديفيد ميلر المفاوض الأمريكي السابق والخبير في معهد كارنيغي للسلام الدولي في واشنطن التحركات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط فيما يتعلق بقضية فلسطين، وهي إن لم تكن التحركات الأولى من هذا النوع والمستوى حيث تعودت المنطقة على هكذا تحركات قبل أو قبيل وضع مخططات سياسية وعلى رأسها مشروع الدولتين على أجندة وطاولة الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتصفية القضية وإنهاء الصراع، ولكن على كل الأحوال هي كما وصفها آرون ديفيد زيارات مكثفة ولها دلالة سياسية مهمة سوف نتناولها في هذا المقال ونبين دوافعها، والأهداف السياسية المرجوة منها.
على غير العادة جاءت هذه التحركات عقب تشكيل حكومة لكيان يهود وليس بعد تسلم إدارة أمريكية جديدة للبيت الأبيض، وهذا يجعل هذه التحركات إما أن تكون لتنفيذ مشروع الدولتين عقب تسلم حكومة في كيان يهود تريد السلام الأمريكي وإنهاء الصراع، فتريد الإدارة الحالية استغلال الفرصة، وهذا حقيقةً عكس الواقع السياسي الحاصل في كيان يهود، فمن تسلم الحكم هي حكومة يمينية قومية توراتية ترفض مشروع الدولتين وتطالب أن تكون فلسطين كاملة وطناً قومياً ليهود دون غيرهم. وإما أن تكون لوقف سياسات معينة للحكومة القادمة تتجاوز المشروع، وهذا ما سوف نسلط الضوء عليه بشكل مفصل.
منذ عهد الرئيس أيزنهاور كانت أمريكا قد وضعت تصور ومشروع حل لقضية فلسطين يقوم في أساسه على دولتين ضمن خارطة فلسطين (27 ألف كلم2)، وكان المفترض أن تكون الدولة على ما بات يعرف بأراضي 1967 فيما بعد، ولكن خبث الإنجليز في 1967 والحركة الخبيثة التي قام بها عميلهم الملك حسين بتسليم الضفة الغربية لكيان يهود للتهرب من الضغط الأمريكي، كل ذلك عطل مشروع الدولتين الخبيث، ومن ثم كانت مراوغة يهود في تنفيذه، ولكن رغم كل ذلك التعثر والفشل بقيت أمريكا متمسكة بمشروعها وهو ما أكده وزير خارجيتها أنتوني بلينكن في زيارته الأخيرة للمنطقة، حيث قال "إن الولايات المتحدة ملتزمة بتطبيق حل الدولتين على المدى البعيد" (الجزيرة نت 1/2/2023)، وهي تحاول تطبيق المشروع من خلال مرونة عالية لمحاكاة الوقائع التي فرضها كيان يهود، المهم أن تكون هنالك دولة للفلسطينيين بغض النظر عن حدودها، وهذا ما عمل عليه ترامب، ولكن الواقع مختلف حالياً في ظل إدارة بايدن المشغولة بملفات كبرى مثل روسيا وأوروبا والصين، وتعتبر تلك الملفات أولوية في سياستها الخارجية وتنشغل بها وتركز عليها، وليس بتنفيذ حل الدولتين الذي تسير الرياح بعكس اتجاهه في المنطقة كلها وليس لدى يهود فقط.
لقد جاءت هذه التحركات عقب نجاح نتنياهو في تشيكل حكومة ضمن تحالف مع أحزاب يمينية قومية وفق تفاهمات على مناصب سياسية وتعهدات خلف الكواليس مع تلك الأحزاب التي تطالب ببناء الهيكل وتهجير أهل فلسطين وضم الضفة الغربية، وهذا ما دق ناقوس الخطر عند أمريكا التي ترى هذا التغير السياسي في كيان يهود، فبعد أن كان يتحين الفرص للمراوغة والتمدد في الضفة بشكل هادئ ودون ضجيج كبير ويتذرع بالسلام والمفاوضات كنوع من مغازلة الغرب ومشاريعه، بات الآن في حالة من الهستيريا التوراتية لتجاوز مشروع الدولتين سياسياً وضم الضفة وبناء الهيكل، وهو ما انعكس على الأرض بكثرة الجرائم والهدم والاستيطان حتى باتت الأوضاع على حافة الانفجار، وهو ما استدعى هذه التحركات السياسية المكثفة والمستمرة لضبط الوضع وكبح جماح كيان يهود في الضفة والقدس، ووضع أسس لإدارة الملف ومنع تصعيد قد يشعل المنطقة ويربك أمريكا في ظل انشغالها بملفات أخرى.
والسؤال المطروح حالياً: هل تنجح هذه التحركات في تهدئة الوضع؟ وما الذي قد يحصل في حال فشلها؟
لا بد من التذكير أن الوضع الحالي هو الوضع الطبيعي سياسياً عند الحديث عن أرض محتلة وشعب يرزح تحت حراب المحتل، فكيف الحال والحديث عن مسلمين لا يعرفون الاستسلام وأرض مباركة كانت مقبرة للغزاة؟ طبيعي سوف تبقى الأمور في حالة توتر، وهي إن هدأت عادت وتفجرت بشكل أعنف من السابق، وإذا ما أضيف لذلك محتل يفكر ببناء الهيكل وضم الضفة وتهجير الناس وإنهاء مشروعه، إذاً الهدوء النسبي أصبح من الماضي، ولكن مع ذلك فإن هذه التحركات قد تنجح في تخفيف حدة التوتر بالضغط على كيان يهود وإغرائه باتفاقيات تطبيع جديدة وخدمات مكثفة من السلطة في رام الله للقضاء على المجاهدين، وكذلك التعاون العسكري مع أمريكا بخصوص المنطقة وملف إيران، ولكن ما تلبث أن تعود الأوضاع للتفجر من جديد.
أما في حال فشلها وهو الاحتمال الأقرب لأن القضية ليست محصورة في نتنياهو أو بن غفير أو سيموريتش وإنما وسط سياسي يميني مغطى من ثلثي الشعب الذي صوت لهم والثلث الباقي محسوب على أحزاب يمينية لا تقل إجراماً عن تحالف نتنياهو وإن كانت خارج الحكومة، وكذلك المؤسسات والمنظمات واللوبيات اليهودية فكلهم مجمعون على مشروع كيان يهود على كامل فلسطين ولكنهم مختلفون في سرعة وآلية التنفيذ والأساليب المتبعة في ذلك، وتمرد يهود هذا على مشروع الدولتين الذي وضع لخدمتهم واستمرار بقائهم في المنطقة يظهر أنهم قوم لا يعقلون ويستعجلون نهايتهم التي باتت قريبة حتى في نظر الدول الغربية ودهاقنة السياسة الغربية بل وحتى مؤرخين وسياسيين يهود، فجميعهم يحذرون من إعادة الصراع إلى أصله؛ صراع بين إسلام وكفر وبين مسلمين ويهود غاصبين لفلسطين، يقول الكاتب البريطاني ديفيد هيرست "يجب أن يكون هذا الوضع بمثابة جرس إنذار لكل يهودي (إسرائيلي) ليس لديه جواز سفر أوروبي ولا يتحمّل تبعات احتمالية نشوب حرب شاملة تبدو الحركة الدينية القومية عازمة على إشعال شرارتها مع 1.6 مليار مسلم حول العالم" وعنوان المقالة "هل (إسرائيل) على وشك الانهيار في ضوء تصدعات المشروع الصهيوني الكبيرة؟".
إن الخطر عظيم على أهل فلسطين وهو يزداد يوماً بعد يوم، وفي الوقت نفسه الفرصة تعتبر ذهبية لأمة الإسلام للتحرك وإسقاط الحكام الخونة وتحرير هذه الأرض المباركة، فالدول الكبرى منشغلة بنفسها وببعضها بعضا، والأمة تنفث غضباً من كيان يهود وجرائمه وهي على مرمى حجر منه وقادرة على القضاء عليه في ساعة من نهار بإذن الله.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع