يشهد الاستعمار الأوروبي القديم انحسارا شديدا لمجال نفوذه وانكماشا متسارعا لدائرة استعماره وتجفيفا لمنابع نهبه، وتحديدا في القارة الأفريقية لحساب المستعمر الأمريكي وإرهاصات الاستعمار الصيني (أضحت الصين الدائن الأول لأفريقيا حيث تملك 62% من الديون الثنائية الرسمية المستحقة على أفريقيا بحسب الإندبندنت البريطانية شباط/فبراير 2022).
وتمثل فرنسا حلقته الأضعف، فلقد توالت الضربات ضد مجالها الاستعماري في أفريقيا، بل في مركز ثقلها الاستعماري كما حدث لها في مالي وسحب عساكرها من هناك، جراء الانقلابات المتكررة في مالي لسنوات 2012، 2020، 2021 والمطبوخة أمريكيا لقلب الطاولة على عملاء فرنسا هناك وأخذ مالي كلية منها. وما جرى في تشاد عقب مقتل رئيسها إدريس ديبي كبير عملاء فرنسا بأفريقيا والذي يعد خسارة كبرى للمستعمر الفرنسي، ثم تحرش أمريكا بها هناك عبر المعارضة التشادية صنيعة أمريكا التي سلحتها ودربتها على الحدود الليبية ونقلت معسكراتها إلى تشاد ما يرشّح احتدام الصراع بين المستعمر الأمريكي والفرنسي، ثم ما جرى ويجري لها بأفريقيا الوسطى. لقد تم تقليص دائرة الاستعمار الفرنسي وتجفيف منابع نهبه بأفريقيا بشكل حاد ما أفزع فرنسا ودفع برئيسها ماكرون للتصريح للفرنسيين الذين اعتادوا العيش على حساب نهب الآخرين بل وحتى قتلهم قائلا "عهد الرفاهية انتهى ونعيش نهاية زمن الوفرة وراحة البال".
ثم تفاقمت المسألة الاستعمارية الفرنسية ففضلا عن التطاحن الاستعماري الفرنسي الأمريكي، استجد ذلك التنافر والتدابر بين المستعمر البريطاني والفرنسي جراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي أدى لشلل تام لسياسة الوفاق والتعاون البريطاني الفرنسي في إدارة استعمارهما داخل أفريقيا في مواجهة أمريكا، وكان لهذا التنافر والتدابر تداعياته على الأطراف العميلة المرتبطة ببريطانيا تحديدا، فقد رفعت بريطانيا الغطاء عن فرنسا وتركتها لمصيرها المجهول وخاصة بعد مغامرة فرنسا في تونس عن طريق انقلاب قيس سعيد، وأوعزت بريطانيا لعملائها تنفيذ الإجراء، فاتخذ النظام الجزائري قرار إغلاق المجال الجوي الجزائري أمام الطيران العسكري الفرنسي المتجه إلى مالي والساحل، واتخذ نظيره في المغرب إغلاق الطريق البري أمام الشاحنات لقطع الإمدادات عن الفرنسيين، وكان قرار الإغلاق ضربة موجعة للاستعمار الفرنسي، وتجاوز الأمر مالي إلى دول أخرى فقد حركت بريطانيا ذراعها داخل أفريقيا والمتمثلة في النظام المغربي الذي خلف نظام القذافي فتفاقمت معها المسألة الاستعمارية الفرنسية وأصبحت فرنسا في العراء التام، وكانت ردة فعل الفرنسيين محاولة إعطاب الأداة البريطانية داخل أفريقيا المتمثلة في النظام بالمغرب، فانفجرت معها الأزمة الفرنسية المغربية.
والأزمة الأخيرة التي أعقبت "تصويت البرلمان الأوروبي يوم 19 كانون الثاني/يناير 2023 على قرار يدين الأوضاع الحقوقية بالمغرب وخاصة ملف الصحافيين المعتقلين، وانتقد البرلمانيون الأوروبيون المغرب بشدة نتيجة تدهور حرية الصحافة في المغرب ومحاولة التأثير على البرلمانيين الأوروبيين فيما يعرف بـ"موروكو غيت". وكانت نتيجة التصويت دالة للغاية، وهي 356 صوتا مقابل 32 اعتراضا و42 امتناعا". (القدس العربي). وقبل هذا التصويت أطلقت قضية فساد ذكر اسم النظام المغربي ضمنها، في اتهامات ثقيلة ضد برلمانيين أوروبيين جرى الحديث عن كونهم تورطوا في تلقي رشاوى من النظام المغربي يحقق فيها القضاء البلجيكي.
وإن كان المعلن أنها أزمة بين النظام بالمغرب والاتحاد الأوروبي فعند التحقيق فهي بين النظام بالمغرب والمستعمر الفرنسي القديم، وتجد خلفيتها الاستعمارية في التكالب والتطاحن الاستعماري الحاد خلال هذا العقد بين أمريكا وبريطانيا وفرنسا على غرب البلاد الإسلامية تحديدا وأفريقيا عموما.
فلقد عرفت العلاقة الاستعمارية بين النظام بالمغرب وأوروبا تأزما بعد الاختراق الأمريكي للمنطقة واعتراف إدارة ترامب بمغربية الصحراء، عطفا عليه البريكسيت الإنجليزي وتدهور العلاقات بين المستعمرين البريطاني والفرنسي وامتدادها لدول الوظيفة الاستعمارية. وبرزت بوادر الأزمة وظهرت جليا في كل من الموقفين الألماني والإسباني ولف الغموض الموقف الفرنسي حتى سنة 2021 اتضح معها الموقف الفرنسي وانفجرت معه الأزمة إلى السطح، ثم بعد انتخاب مستشار جديد لألمانيا وحكومة جديدة بإسبانيا ومع تجميد قرار الاعتراف بمغربية الصحراء من طرف إدارة بايدن، فقد سعت كل من ألمانيا وإسبانيا لاستعادة علاقتهما الاستعمارية مع الرباط في حين بقيت الأزمة الفرنسية عالقة، وزاد من حدتها خسارة المستعمر الفرنسي لكثير من نفوذه ومجال نهبه في أفريقيا، واستمرت العلاقة الاستعمارية مع فرنسا في التأزم ولم تعرف حلحلة حتى الآن، ما دفع فرنسا لاستعمال كثير من أوراق الضغط والابتزاز لتأمين شيء من مصالحهم الاستعمارية المتدهورة، فاستعملت فرنسا ورقة تقليص تأشيرات السفر للمهاجرين من المغرب إلى فرنسا، وهددت بكشف حسابات مسؤولين وسربت تسجيلات لفضائح ساسة المغرب، وتم استقبال وفد من البوليساريو بقصر الإليزيه، ثم ها هي تحرك ملف حقوق الإنسان والرشاوى من داخل البرلمان الأوروبي، لعلها تتقوى بالاتحاد الأوروبي البائس في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه بمفردها، ففرنسا هي من يترأس الدورة الحالية للاتحاد الأوروبي فهي من يحرك الملفات ويسحب الأوراق ويعمل في الكواليس، فهي التي تدير هذا الابتزاز الاستعماري من داخل الاتحاد الأوروبي وعبر برلمانه.
وقد وصفت صحيفة لوموند الفرنسية في مقال لها يوم الجمعة من الأسبوع الماضي تصويت البرلمان الأوروبي بـ"الثورة الصغيرة" لأن البرلمان لم يتحرك ضد المغرب في ملف حقوق الإنسان منذ أكثر من عقدين. وقامت الصحيفة الفرنسية نفسها بتغطية واسعة للمؤتمر السادس عشر لجبهة البوليساريو المنعقد ما بين 13 و17 كانون الثاني/يناير 2023، ثم نقلت عن كبار مسؤولي الجبهة رسائلهم السياسية بل العسكرية للمغرب "سعي البوليساريو للعودة إلى أساليب القتال الماضية بين عامي 1986 و1989" بل ذهبت أبعد من ذلك ونقلت بالقول عن البوليساريو تصريح قادته "لا يجب علينا مهاجمة الجدار فحسب، بل يجب مهاجمة البنية التحتية الاقتصادية للمغرب لمنعه من الاستفادة من مواردنا، يجب أن يشارك الصحراويون في الأراضي المحتلة في هذا الصراع، قد نحتاج إلى التفكير في الاعتماد على الانتحاريين"، وفي تحول صحيفة لوموند الفرنسية إلى ساعي بريد عسكري لجبهة البوليساريو لم تغب فرنسيتها في نقل رسالة دولتها الاستعمارية فرنسا تلك الرسالة المشفرة للنظام بالمغرب.
وتسعى فرنسا من وراء استقوائها بالبرلمان الأوروبي للضغط في تأمين بعض ما تبقى من نفوذها الاستعماري جنوب الصحراء الكبرى، كما تسعى لصد الهجمة الأمريكية الشرسة على نفوذها الاستعماري بالساحل الأفريقي، عبر عرقلة مساعي أمريكا بناء قاعدة عسكرية لها بالمغرب وتحديدا بالصحراء على باب الساحل الأفريقي، وذلك عن طريق إعادة فتح ملف قضية الصحراء على ما قبل اعتراف إدارة بايدن وإعادة التكييف القانوني للمنطقة من كونها منطقة متنازعاً عليها يمنع الاستثمار بها أو بناء قواعد على أرضها، وهي محاولة بائسة يائسة للفرنسيين في صد الهجوم الاستعماري الأمريكي الشرس عليهم، وبخاصة بعدما تم الكشف عن عزم أمريكا بناء قاعدة صناعية عسكرية بالمغرب مطلة على الساحل الأفريقي، فقد أفادت صحيفة "نيويورك ديلي نيوز" بتاريخ 17/01/2023 "أن الرئيس الأمريكي بايدن أصدر تعليماته لوزير الدفاع لويد أوستن بإعداد خطة طارئة لإنشاء قاعدة صناعية عسكرية أمريكية بالمغرب"، فعين أمريكا على جنوب الصحراء الكبرى الأمر الذي يمثل إجهازا على ما تبقى من النفوذ الاستعماري الفرنسي المتداعي.
رأيك في الموضوع