المصالح هي الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات. حيث إن المصلحة هي التي توجد العلاقة بين الناس في المجتمع. وإذا كانت العلاقة التي نشأت بسبب مصلحة ما دائمة حينها تتحول الجماعة من مجرد مجموعة من الناس تربط بينهم علاقة إلى مجتمع تتوحد فيه النظرة إلى المصالح من حيث منفعتها أو النظام الذي يضبط كيفية الحصول على المصلحة. والمصالح داخل المجتمع الواحد تنشأ بسبب الدوافع الناشئة عن الحاجات العضوية والغرائز لدى الأفراد، حيث إن الله عز وجل خلق في الإنسان حاجات تحتاج للإشباع وغرائز تحتاج للتنظيم والإشباع، وهذا هو الأساس الذي توجد بسببه المصالح وتنشأ منها المجتمعات.
والمجتمع الدولي يشبه المجتمع المحلي من حيث إن مصالح الدول هي التي تؤدي إلى إنشاء علاقات بين الدول، وإن كانت مصالح الدول لا تنشأ بسبب حاجات وغرائز الأفراد داخل المجتمع. والعلاقات التي تنشأ بين الدول بسبب مصالحها هي التي تحدد طبيعة المجتمع الدولي، أي تحدد طبيعة العلاقات بين الدول. ومصالح الدول تتبع في الغالب وجهة النظر التي تتبناها، كما أن وجهة النظر هي التي تحدد الكيفية التي تسعى بها الدول لتحقيق مصالحها. فأمريكا مثلا تتبنى الرأسمالية والديمقراطية وجهة نظر لها في الحياة، وتتبنى الاستعمار طريقة لتحقيق مصالحها، ومثلها بريطانيا وفرنسا وغيرهما. والصين تتبنى مزيجا من الرأسمالية والاشتراكية وجهة نظر لها في الحياة وتتبنى العلاقات التجارية أداة لتحقيق مصالحها. ودولة الخلافة ستتبنى عقيدة الإسلام وجهة نظر لها في الحياة وتتبنى الدعوة والجهاد لتحقيق مصالحها المبنية على العقيدة الإسلامية. والاتحاد السوفيتي البائد كانت وجهة النظر لديه تقوم على المادية الجدلية والمادية التاريخية، وكان يستخدم الأعمال السياسية والحركات الشيوعية لنشر فكرته وتحقيق مصالحه المبدئية.
والغالبية العظمى من دول العالم اليوم مصالحها مادية صرفة، تتركز أغلبها في الحصول على الثروة أو تنميتها بغض النظر عن شكل الثروة ونوعها. فأمريكا تعتبر تجارة النفط والمال الربوي عن طريق القروض وتجارة السلاح من أهم مصالحها، ولتحقيق هذه المصالح تستعمل قوتها العسكرية بشكل مباشر وإقامة الأحلاف العسكرية وإخضاع الدول لهيمنتها أو احتلالها. وبناء على هذه المصالح تحدد علاقاتها بالدول. فالدول التي تساعدها في تحقيق مصالحها ولا تشكل عائقا تعتبر دولا صديقة أو حليفة، وغير ذلك فهي عدوة، كما عبر عن ذلك جورج بوش الابن بقوله: "إما أن تكون معنا أو عدوا لنا". وحين تتضارب المصالح للدول تتبدل العلاقات وتختلف الأحلاف وقد يتحول الأصدقاء إلى أعداء والأعداء إلى أصدقاء. وقد شاهدنا في حرب أوكرانيا الأخيرة كيف أن أمريكا سعت وبكل قوة لحرمان حلفائها في أوروبا من أهم مصدر من مصادر الطاقة الروسية (خط غاز نوردستريم) لأجل إبقائها تحت هيمنتها، وقد عبر عن ذلك جورج فريدمان مستشار مجلس الشؤون الخارجية الأمريكية بقوله: "لقد أظهرت الحرب في أوكرانيا أن ألد الأعداء هم الأصدقاء"، وعبر عن ذلك بايدن منتقدا رأي الجمهوريين بتمويل أوكرانيا بقوله: "إن هؤلاء لا يفهمون سياستنا الخارجية، فهذه الحرب تتعلق بأوروبا والناتو". ومن قبل تضاربت مصالح أمريكا مع مصالح بريطانيا وفرنسا في الشرق الأوسط وأوروبا، فلم تجد أمريكا بُداً من التحالف مع الاتحاد السوفيتي في ما اصطلح عليه الحرب الباردة من أجل التمكن من استئصال نفوذ بريطانيا وفرنسا وفرض هيمنتها على مستعمراتهما في الشرق الأوسط وأفريقيا. علما أن الاتحاد السوفيتي هو الأخطر من الناحية المبدئية.
والملاحظ في الصراع لتحقيق المصالح أنه كلما زادت قوة الدولة العسكرية والسياسية كانت أقدر على تحقيق مصالحها بنفسها، وحين تقل قوة الدولة بالنسبة للدول الأقوى، فإنها تعمل على ربط مصالحها بمصالح الدولة الأقوى. وهذا ظاهر في بعض الدول الأوروبية والآسيوية التي تساعد أمريكا في تحقيق مصالحها من أجل أن تحقق هي مصلحة من مصالحها ولا بأس بأن تقدم مصلحة الدولة الأولى على مصلحتها هي إذا اقتضى الأمر. فتركيا مثلا لا تفتأ تعمل لتحقيق مصالح أمريكا حتى وإن لم يكن لتركيا مصلحة في ذلك، ومثالها مواقفها في الصراع الأذري الأرميني، فوقفت تركيا على الحياد مرة، ومرة أخرى دعمت أذربيجان بقوة لاستعادة إقليم ناغورنو قره باخ. وروسيا في مقابل المحافظة على بعض من مصالحها سعت لتحقيق مصلحة أمريكا في المحافظة على سيطرتها على النظام في سوريا وتدخلت بقواتها العسكرية من أجل ذلك.
ومصالح الدول قد تكون استراتيجية طويلة الأمد تسعى لتحقيها بأدوات استراتيجية كالقوى العسكرية بشتى أصنافها بما فيها السلاح النووي، كما هي السيطرة على منابع النفط والممرات المائية المهمة، والهيمنة على الفضاء مثلا، ومنها ما هو دون ذلك ويطلق عليها المصالح التكتيكية التي من الممكن التخلي عنها تحت ظروف معينة أو تبديلها حسب الظروف الآنية.
أما دولة الخلافة فإن مصالحها الاستراتيجية أو التكتيكية لا بد أن تكون مرتبطة ارتباطا وثيقا بغاية الدولة العليا وهي حمل الدعوة للبشرية لإنقاذ الناس من براثن الشرك وظلمه، ولا تخضع للمصالح المادية أو للظروف المحلية أو الدولية. وينبغي على دولة الخلافة دوام إدراك مصالح الدول الكبرى وأدوات تحقيقها وكيفية تهديد هذه المصالح وتقليصها أو القضاء عليها مطلقا.
رأيك في الموضوع