أيام قليلة تفصل كيان يهود ولبنان عن إنهاء مراسم التوقيع الرسمي على اتفاقية تسوية الحدود البحرية بينهم في الناقورة، وذلك بعد الموافقة الرسمية من الطرفين وحكوماتهم على مسودة الاقتراح الأمريكي. وجاء هذا الاتفاق المتوقع بعد حالة من الجمود أصابت الملف منذ أكثر من عقد فيما عرف آنذاك بوساطة هوف عام 2011، وقد تحركت الولايات المتحدة هذه المرة بقوة مستثمرة الوضع السياسي والاقتصادي في لبنان والوضع السياسي في كيان يهود، وضغطت بكل قوة لإنجاز تسوية سريعة بالتزامن مع اقتراب انتخابات كيان يهود واقتراب الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي وكذلك تصاعد الأحداث في أوروبا وتفاقم أزمة الغاز وشلل الإمدادات بعد تعرض خطوط الإمداد الروسية لضربات سياسية وعسكرية، وبالتزامن أيضاً مع انتهاء كيان يهود من التنقيب في حقل كاريش وعزمه بدء عملية استخراج الغاز منه وما رافق ذلك من تهديدات على لسان حزب إيران في لبنان وبالتنسيق مع النظام السياسي الذي يبحث عن مصدر دخل يدعم نظامه المتهاوي بعد الانهيار الاقتصادي الذي ألمّ بالبلد والتحذير من تصعيد عسكري، فما هي حقيقة الخلاف الذي تمت تسويته؟ وما تأثير ذلك على قضية فلسطين والمنطقة وكيف ينظر له؟
كما هو معلوم فإن اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية قسمت بلاد الشام وفق حدود برية وبحرية مرتبطة بها وجعلت تلك الحدود وخاصة البحرية منها مناطق نزاع وخلاف تمت تسويتها لاحقاً ضمن ما بات يعرف بالقانون الدولي ضمن آلية خاصة تشمل التفاوض بين الأطراف المتنازعة، فإذا لم تصل المفاوضات إلى نتيجة أو إذا تعذّرت فيمكن اللجوء إلى التحكيم والقضاء الدولي، حيث تبنّت كل من محكمة العدل الدوليّة ومحكمة التحكيم الدولي طرقاً متعدّدة لتعيين الحدود بين دول متجاورة، وكان أبسطها اعتماد خطّ الوسط أو ما يعرف بـ(medline)، وقد اتخذ النظام اللبناني من تلك الأسس والمرجعيات الغربية منطلقاً له في تسوية الحدود البحرية مع كيان يهود متجاوزاً أن تلك المرجعيات والحدود كانت ولا زالت تمثل إرث الاستعمار في بلادنا ولعنته في تقسيمها وتشتيت شملنا، ومتجاوزاً أن كيان يهود كيان غاصب لا شرعية له لا على بر ولا على بحر لتتم تسوية الحدود معه!
وقد قدم النظام اللبناني عام 2010 تلك الحدود التي يطالب بها ضمن ما عرف بخط 23 الذي ظهر فيه حرصه على عدم إغضاب كيان يهود، فجعل الحدود تمر بمحاذاة حقل كاريش وجَعل جزءاً من حقل قانا ضمن حدود كيان يهود، وهو ما تسبب في حالة من الحرج للنظام فما كان منه إلا أن تراجع وقدم إحداثيات جديدة عام 2011 بمساعدة هيئة المسح البحري البريطانية، وأضاف إلى الخط السابق 1430كم2 وهو ما عرف بخط 29 ويضم كامل حقل قانا وجزءاً من حقل كاريش، وفي المقابل قدم كيان يهود إحداثيات عرفت بخط 1 تجعل تقريباً 2290كم2 شمال خط 29 ضمن حدوده بما فيها حقل كاريش ومعظم حقل قانا، وتوقفت المباحثات عند ذلك النزاع ووضع خط هوف شمال خط 23 بشكل منحاز لكيان يهود كحل مؤقت، حتى جاء الاقتراح الأمريكي الجديد بإشراف من كبير مستشاري أمن الطاقة في وزارة الخارجية عاموس هوكشتاين، وبمقترح ظهر فيه العزم على إنهاء الملف ضمن تقسيم يعتمد خط 23 أساساً للترسيم وبجعل حقل كاريش بالكامل لكيان يهود وحقل قانا بالكامل للبنان مع صيغة إرضاء لكيان يهود على جزء من الحقل يوجد جنوب الخط 23، وتم اعتماد هذه التسوية كصيغة لحل الخلاف القائم مع تفاعل إيجابي من النظام اللبناني وكيان يهود طمعاً في التطبيع الكامل مُستَقبلاً، وتجاوزاً لمعيقات استخراج الغاز والابتعاد عن أي نزاع عسكري على ثروة سال عليها لعاب زعماء مليشيا إيران والنظام اللبناني.
وقد نجحت الوساطة الأمريكية، بل هي الراعي والموجه وليست الوسيط، في إتمام هذه التسوية، واستطاعت حكومة يائير لبيد تجاوز تحركات نتنياهو وجماعات اليمين؛ حيث ردت محكمة العدل العليا الالتماسات التي قدمتها منظمات يمينية لإصدار أمر احترازي بوقف إجراءات المصادقة على الاتفاق، واعتبرت المحكمة أن هذا الاتفاق لا يندرج تحت قانون عام ٢٠١٤ (المتعلق بالتنازل عن الأراضي السيادية) وبالتالي لا يلزم إخضاع هذه التسوية للتصويت في الكنيست والحصول على أغلبية ٨٠ عضواً من أصل ١٢٠ أو أغلبية ٦٥ عضواً مع إجراء استفتاء شعبي، وهو ما كان يهدد بعرقلة الاتفاق، وبالتالي يمكن القول إن التسوية تم إنجازها ولم يتبق إلا بروتوكول التوقيع الرسمي في الناقورة، ومن ثم إطلاق العنان للعلاقات الاقتصادية والسياسية بين كيان يهود والنظام اللبناني على خطا الإمارات والبحرين والسودان والمغرب... في مشهد خياني باتت جميع الأنظمة تتسابق عليه!!
إن هذه التسوية باطلة، بل إن النزاع من أساسه باطل، فالنزاع مع كيان يهود لم يكن في يوم من الأيام من منطلق حدود سايكس بيكو الاستعمارية، وإنما من منطلق إسلامي، والصراع معه صراع وجود وليس صراع حدود بحرية وبرية، وهذه التسويات الحدودية فوق أنها ترسيخ لحدود الاستعمار كما هو حاصل مع سوريا وكل بلاد المسلمين، فهي إقرار بشرعية كيان يهود وأحقية وجوده في المنطقة واحتلاله للأرض المباركة، وهي تمكنه من ثروات هائلة في شرق المتوسط بات يتنعم بها ويستخرجها ويصدرها إلى أوروبا بمساعدة النظام المصري الخائن، فيجني المال، إضافة إلى أنه يساعد أمريكا في إدارة سياستها المتعلقة بتوفير الغاز لأوروبا وربما يتحول إلى شريان رئيسي لها مستقبلاً في ظل تحطم الجسور مع روسيا وفي ظل الكميات الهائلة المكتشفة والتي باتت تقدر وفق هيئة المسح الجيولوجي الأمريكي بـ34.5 تريليون متر مكعب من الغاز في حوض بلاد الشام لوحده و1.7 مليار برميل من النفط القابل للاستخراج، وكيان يهود يسيطر على الجزء الأكبر منها (حوالي 11 حقلاً إلى الآن منها حقول تقدر الكميات الموجودة فيها 17 تريليون متر مكعب)، وهذا يوجب على أمة الإسلام الوقوف عند هذه الحقائق لترى أنها لم تفقد فلسطين والسيادة فقط، بل تفقد ثروات حباها الله بها بينما تقاسي الفقر والجوع وشظف العيش، وأن عليها القيام بعمل سياسي واعٍ لإسقاط تلك الأنظمة وإقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة لتحرير فلسطين وشرق المتوسط وثرواته من هيمنة يهود والدول الكبرى.
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع