قبل الحديث عن موضوع التهدئة لا بد من دراسة الاستراتيجية الأمريكية تجاه الصين وكيف تنظر أمريكا للصين.
بعد نهاية الحرب الباردة أواخر الثمانينات وانتصار أمريكا وهزيمة الاتحاد السوفيتي ثم تفكّكه مطلع التسعينات من القرن الماضي، راجت مقولات عدّة حول "النظام العالمي الجديد" و"الأحادية القطبية" و"القرن الأمريكي الجديد"، وغيرها من عبارات تؤكّد كون أمريكا الدولة الأولى في قيادة العالم، بوصفها القوّة العظمى الوحيدة من دون منازع. وفي مقابل رواج نزعة التنظير تلك للزعامة الأمريكية المطلقة، ظهرت كتابات تذهب إلى التشكيك في نظام القطب الواحد، وتتحدث عن "عالم متعدد الأقطاب"، محاولة تفنيد المزاعم الأمريكية المهيمنة وإمكانية بقائها على مكانتها في القرن الحادي والعشرين خاصة في ظل الأزمات العالمية والمالية وبروز نظرة تجاه الدولار، والانقسامات الأمريكية الداخلية، وتعارض أدوات الدولة العميقة، فضلا عن تداعيات الخروج من أفغانستان وحرب العراق، ومحاولات بناء قوة أوروبية مستقلة، وتنامي الدور الصيني في الإقليم وقوة الاقتصاد الصيني وتنامي القدرات العسكرية الصينية، كل هذا جعل أمريكا ترسم استراتيجية معينة لجميع المخاطر المحتملة لوجود مهيمن إقليمي يهدد مكانتها الإقليمية خاصة إذا تحدثنا عن المحيط الهادي وطبيعية الجغرافيا السياسية هناك.
لذا رأت الاستراتيجية الأمريكية احتواء كل المخاطر المحتملة، ونظرت للصين كأحد أهم هذه المخاطر الاستراتيجية حيث طرح وزير الدفاع الأمريكي آنذاك جيمس ماتيس "استراتيجية الولايات المتحدة الجديدة، في منطقة المحيط الهندي والهادئ"، الصين بمثابة العدو الأوحد لأمريكا في هذه المنطقة، وهي وفقا لماتيس تمارس "سياسة الترهيب والعسكرة".
وقال ماتيس، في إطار معاقبة أمريكا للصين: فمن الآن فصاعدا، تنتقل واشنطن إلى سياسة ردع الصين في المنطقة وستساعد الحلفاء على بناء أساطيلهم حتى يتمكنوا من مواجهة الصين بشكل أفضل.
إذا الصين عدو وهذه خلاصة الاستراتيجية الأمريكية وليست حليفا ولا محايدة ولا صديقا.
إذا اتفقنا على هذه النقطة ننتقل إلى بحث كيفية التعامل مع العدو؛ هل يكون بالقوة الخشنة أو الصلبة فقط، أم من خلال القوة الذكية؟ ولتوضيح هذا الأمر نحتاج إلى توضيح معنى القوة الخشنة في مقابل الناعمة أو الذكية وإن كان هناك فرق بينهما.
تعرف القوة الصلبة على أنها القدرة على فرض السيطرة على الآخرين عن طريق الإكراه أو الحوافز المادية. وتعتبر المصادر الأساسية للقوة الصلبة هي القوة العسكرية والقوة الاقتصادية من خلال العقوبات الاقتصادية ورفع الرسوم الجمركية والعقوبات على الكيانات والشركات بل حتى الأفراد، ومن خلال استخدام أدوات القوة الأولى عالميا للمؤسسات الدولية التي تهيمن على قرارها السياسي.
أما القوة الناعمة والتي ظهرت على يد جوزيف ناي عام 1990 والذي قدمه في مقالته "Soft Power" "كي يتلاءم مع طبيعة البيئة الجديدة للعلاقات الدولية التي يتزايد فيها التبادل الاقتصادي وخطورة أي محاولة لاستخدام القوة الصلبة على تدفق المنافع الاقتصادية. ومن هذه التحولات كذلك التحول من التعددية القطبية وبعدها الثنائية القطبية إلى أحادية القطبية التي أصبحت تتميز بصعود قوة أحادية تسيطر على المشهد الدولي وتحتاج للمحافظة على مكانتها أن تسيطر على هذه البيئة دون التورط في حروب هنا وهناك. ومن هذا المنطلق قدم ناي مفهومه مستهدفا به القوة الأمريكية بالأساس وكيفية تعاملها مع المجتمع الدولي في هذه الحقبة الجديدة".
مفهوم القوة الذكية: القوة الذكية هي نتاج الجمع بين القوة الصلبة والقوة الناعمة معاً ولكن وفقا لاستراتيجية محددة تجمع بينهما. "ويعرف أرنست ويلسون القوة الذكية على أنها قدرة الفاعل الدولي على مزج عناصر القوة الصلبة والقوة الناعمة بطريقة تضمن تدعيم تحقيق الأهداف الفاعلة بكفاءة وفعالية".
لقد أدركت أمريكا أن استخدام القوة الصلبة أدى إلى نتائج سلبية ولم يحقق الأهداف الاستراتيجية كما هو مأمول كما حدث في أفغانستان والعراق، والحروب العسكرية أي القوة الخشنة هي قصر لنوع من القوة في التعامل مع الآخرين حيث يشير جوزيف ناي "لتغير مصادر القوة حيث أصبحت التكنولوجيا والعلوم والتعليم مصادر جديدة للقوة. بالإضافة إلى أن القوة الاقتصادية والدبلوماسية للدولة أصبحت ذات أهمية كبيرة لتحديد قوة الدولة وقدرتها على التأثير في الساحة الدولية. بل إن الاعتماد على هذه المصادر الجديدة أصبح أقل تكلفة من الاعتماد على القوة العسكرية من نواح عدة كما سبق ذكرها. وكنتيجة لذلك تغيرت الاستراتيجيات الدولية وحسابات كل دولة فتحول الوضع من رغبة كل دولة في زيادة قوتها على حساب غيرها إلى التعاون مع غيرها لزيادة قوتها وتعظيم منفعتها والاستفادة من هذا التعاون في التغلب على التحديات التي تواجهها والتي لا تستطيع أن تواجهها منفردة".
ومن خلال هذه النقاط نستطيع القول إن أمريكا غيّرت من الأساليب فقط وأبقت على استراتيجية احتواء الصين كعدو استراتيجي محتمل ستتعامل معه من خلال مفهوم القوة الشامل أي القوة الذكية، وليس القوة الخشنة فقط كما فعل ترامب الذي ذهب في استخدام القوة الخشنة بأسلوب فظ ما جعل التوافق الصيني الروسي أكبر وعاد على سياسة الاحتواء بالإبطال أو الإعاقة، فعادت إدارة بايدن إلى سياسة القوة من خلال استخدام جميع أنواع القوة، وهي لا تمنع من العلاقات التجارية مع الخصم ولا اللقاء ولا التفاهم مع العدو في بعض القضايا مع بناء التحالفات العسكرية مع دول الإقليم وضم المحيط الهندي إلى الهادي والوجود العسكري الكبير للقوات الأمريكية في بحر الصين، ومن خلال التحالفات الاقتصادية مع دول الجوار والعلاقات والتكتلات والتي خرج منها ترامب تاركا فراغا في دول الإقليم استغلته الصين لمصلحتها، فما كان من إدارة بايدن إلا إعادة توظيف الوجود الأمريكي في جميع التكتلات الاقتصادية مع دول الجوار مجتمعة أو منفردة، وتحديث القوة العسكرية الأمريكية ورفع دول الجوار من زيادة الإنفاق العسكري والتعاون مع أمريكا وبناء القواعد العسكرية، كل هذا يعني عودة أمريكا لمفهوم القوة الذكية التي لا تعود على الأهداف بالإبطال أو الإعاقة.
فلا تهدئة مع عدو محتمل وإنما سياسة الاحتواء من خلال مفهوم القوة الشامل.
رأيك في الموضوع