بين مطبل مزغرد مهلل، فرحاً بمرور دستور قيس سعيد ودستور الجمهورية الثالثة، وبين مطبل نافر متذمر، سوءاً لمرور دستور يبني لدكتاتورية جديدة ويحد من الحريات العامة ونتيجة لعملية انقلابية على الحكم؛ بين هذا وذاك، كان المشهد في الشارع التونسي، ليلة 25 تموز/يوليو 2022، في ضرب يغلب عليه الانقياد الأعمى والتعصب الأصم لمشروع سياسي مجهول المعالم، يدفعه كره عميق وحقد كبير على طبقة سياسية حكمت العشرية الأخيرة وعاثت فسادا في البلاد والعباد.
إن المتابع لمسار المشهد السياسي اليوم، يعلم أن استفتاء 25 تموز/يوليو على الدستور هو أول محطة انتخابية فعلية التزم وتقيد بها الرئيس قيس سعيد تجاه المجتمع الدولي، وكان ذلك ردا على بيان سفراء مجموعة الدول السبع بتونس يوم 10 كانون الأول/ديسمبر 2021 والذي طالبوا فيه بتحديد سقف زمني واضح يسمح بعودة سريعة لسير عمل المؤسسات الديمقراطية.
وكان رد قيس سعيد سريعا حيث أعلن بعد ثلاثة أيام فقط من صدور بيان الدول السبع، خارطة طريق تضم استفتاء شعبياً يوم 25 تموز/يوليو، ثم انتخابات تشريعية يوم 17 كانون الأول/ديسمبر 2022.
زد على ذلك ما انكشف من محاولة للتضخيم والترفيع في نسبة المشاركين في الاستفتاء من طرف الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. حتى إن قيس سعيد وفي أول إطلالة له ليلة الاستفتاء وبعد خروج النتائج الأولية صرح أن أولى أولوياته الآن هو قانون انتخابي جديد يمهد للانتخابات التشريعية القادمة، في رسالة ضمنية لالتزامه بما تقيد به من قبل.
كل هذا دليل على أن قيس سعيد كان الهدف الرئيسي له من خلال هذا الاستفتاء هو بعث رسالة طمأنة للقائمين في الغرب أنه قادر على ضمان الاستقرار السياسي وأنه هو الأولى والأشد لحراسة مشاريعهم وتنفيذ استراتيجياتهم داخل البلاد. وإن ما يروج له قيس سعيد من جمهورية ثالثة، ومن دستور سيضمن للشعب التونسي كرامة العيش، وفلسفة الحكم القاعدي هو ضرب من الخيال والدجل السياسي. وما أشبه وعوده بوعود من سبقوه بُعيد المصادقة على دستور 2014!
فمن أين سيأتي التغيير والاتحاد الأوروبي ما زال يسيطر ويفرض علينا منوال التنمية ويمارس وصايته على البلاد؟! ومن أين سيأتي التغيير وصندوق النقد الدولي يواصل فرض إملاءاته وأوامره وشروطه علينا؟! ومن أين سيأتي التغيير والنظام الرأسمالي العلماني نفسه الذي ذقنا منه الويلات ما زال يتحكم في رقابنا؟!
إن المعركة الحقيقية اليوم في تونس ككل المعارك في البلاد الإسلامية، هي معركة ولاءات وإرضاءات؛ فلا المعارضة برمّ رميمها تعمل على إخراج البلاد مما هي فيه اليوم من أزمات اقتصادية ومالية خانقة ترمي بنا إلى حافة الإفلاس، ولا قيس سعيد بدستوره الجديد يسعى لتحرير البلاد من مستعمر جاثم على صدورنا وينهب ثرواتنا ويتحكم في مقدراتنا.
المعركة الحقيقية بين هذه الطبقة السياسية العلمانية هي معركة كراسي معوجة قوائمها، معركة من يحكم أو بالأحرى من يفوز بمقام موظف لدى المقيم العام داخل البلاد!
اليوم في خضم كل هذا اللغط الإعلامي والعبث والتناكف السياسي لا يمكن لنا إلا أن نصطف وراء مشروع الإسلام ونظام الإسلام.
اليوم يسوّق في الإعلام وعلى لسان من يحكمون البلاد أن التعامل والرضا بأوامر صندوق النقد الدولي هو أمر حتمي، ويسوقون أن تدخل فرنسا وبريطانيا وأمريكا في أمر البلاد هو من باب الانفتاح والتبادل اللوجستي والتعاون الفني! ويسوقون أيضا أن رفع الدعم عن المواد الأساسية وغلق باب الانتداب في الوظيفة العمومية والتقشف وتخفيض كتلة الأجور، هي من باب الإصلاحات الاقتصادية المؤلمة! ... والكثير الكثير مما يدّعونه زورا وبهتانا.
هم لا يتجرؤون حتى مجرد التفكير خارج إطار هذا النظام الفاسد، هم لا يتجرؤون حتى بالبحث في معالجات خارج النظام الرأسمالي، فصندوق النقد الدولي ليس هو قدرنا ولا هو أمراً مفروضاً علينا، وما إصلاحاته المزعومة إلا استعمار جديد وليست لها علاقة بالإصلاح البتة.
هذه الطبقة الحاكمة لا تملك إلا أن تقول سمعنا وأطعنا لأوامر الغرب الكافر ومشاريعه الخيالية التي ليس لها حقيقة على أرض الواقع.
إن التخندق اليوم وراء هذه الأحلاف والتكتلات المتناحرة المتشاكسة هو في الحقيقة إطالة لعمر هذا النظام وإطالة لسبب المشاكل التي نعيشها منذ فترة الاستعمار، وإن الاصطفاف في هذه الفترة واجب والتضحية أيضا واجبة، ولكن في مشروع حضاري واضح المعالم يحمل معه معالجات اقتصادية واجتماعية ونقدية و... وأكثر من الأفكار كيفية التطبيق والإنجاز.
كفانا تضحيات من أجل تركيز الاستعمار بوجوهه المختلفة، كفانا ذلاً وتبعية، كفانا تجارب فاشلة!
اليوم الأمة الإسلامية قادرة على تصدر المشهد والموقف السياسي من جديد، وتونس قادرة على أن تكون قاطرة لهذا المشروع العالمي؛ مشروع الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
بقلم: الأستاذ ممدوح بوعزيز
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع