منذ انطلاق الربيع العربي، والمنطقة لم تهدأ رغم المحاولات المتكررة لوأده، إلا أن الرغبة القوية لدى الشعوب الإسلامية للتحرر من استبداد الحكام العملاء وطغيانهم كانت أكبر من تلك المحاولات، فبالرغم من تشكيل حكومة تلو الحكومة، وإجراء انتخابات في بعض البلدان، ومحاولات التوافق بين مختلف القوى السياسية والعسكرية في بعض الدويلات، كل ذلك لم يفلح في استقرار هذه البلاد والنهوض بالشعوب، ما يدفعنا للتفكير الجاد في إدراك السبب الرئيس لهذه المعضلة وعدم إمكانية حصول اتفاق بين تلك القوى، فلماذا كلما أبرم اتفاق، أو تم تشكيل حكومة، أو أجريت انتخابات تتفجر الأوضاع من جديد؟
فإذا أخذنا السودان مثالاً، حيث قامت انتفاضة شعبية لم يسبق لها مثيل في مواجهة نظام البشير، انتظمت كل مدن السودان لإسقاط حكومة الإنقاذ، وقد تم ذلك في نيسان/أبريل 2019م، حيث قامت اللجنة الأمنية لنظام البشير نفسه بالإطاحة به وتعيين مجلس عسكري لحكم البلاد، إلا أن القوى السياسية أفلحت في إبقاء الشارع ملتهباً، واعتصام أمام قيادة الجيش، ما أحدث شللا تاما لحركة الحياة في العاصمة الخرطوم، ورفع المعتصمون من سقف المطالبات بإبعاد العسكر تماماً من المشهد السياسي، وإقامة حكومة مدنية بكامل الصلاحيات، ومجلس تشريعي مؤقت لحين إجراء انتخابات، فسارع العسكر، بتواطؤ من بعض القوى السياسية، بفض الاعتصام بمجزرة لا تزال فضائحها تلاحقهم، ثم أبرموا اتفاقاً سمي بالوثيقة الدستورية، يتشارك من خلالها المدنيون والعسكر في الحكم، وتم تشكيل مجلس سيادة برئاسة العسكر، ومجلس وزراء بإدارة مدنية.
استمرت الحكومة الانتقالية لعامين تميزت بالفشل والتخبط والتشاكسات والمخاصمات، والاتهامات المتبادلة بين العسكر والمدنيين، انتهى بانقلاب البرهان، في تشرين الأول/أكتوبر 2021م ثم خطابه في 04/07/2022 الذي أعلن فيه تخلي المؤسسة العسكرية عن التفاوض مع المدنيين، فدفع بالكرة إلى ملعبهم بأن تتفق القوى المدنية مع اللجنة الثلاثية (الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والإيقاد) على تشكيل حكومة، واختيار رئيس وزراء دون أي تدخل من الجيش، فلم يقبل المدنيون بهذا العرض واتهموا البرهان بالتلاعب بعقولهم، ما أعمى فهم الكثير من السياسيين والمتابعين، فها هم العسكر يعطون المدنيين الحق في إقامة حكومة، وتعيين رئيس وزراء بكامل الصلاحيات دون تدخل منهم، فيرفض المدنيون ذلك، لماذا؟
نقول إن من أدق المفاهيم السياسية وأهمها، إدراك مفهوم السلطة، وأين تكمن، ولمن تكون، فالسلطان غير السلطة، فالسلطان لغة هو الحكم - الملك والوالي - وهو الحجة والبرهان، وكمصطلح سياسي يقصد به الحاكم (الوالي)، والحكم كما جاء في الحديث أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ قَالَ: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ». أما لمن يكون السلطان فإنه للأمة، فهي التي تختار من يحكمها، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ»، وأحاديث البيعة كثيرة وكلها تقود إلى أن السلطان للأمة تعطيه من تشاء وفق أحكام الإسلام، وهذا يعني أن رفض المدنيين تشكيل حكومة بعيداً عن العسكر ليس هو مرادهم، فماذا يريدون أكثر من أن يكون السلطان لهم؟! قال عادل خلف الله الناطق الرسمي باسم الحرية والتغيير والقيادي بحزب البعث رداً على سؤال مذيعة قناة الجزيرة قال: "إن البرهان أحرجكم، حيث ترك لكم اختيار الحكومة ورئيس الوزراء دون تدخل الجيش، فماذا تريدون، ولماذا رفضتم؟"، فقال: "نحن نريد السلطة، بمعنى حكومة مدنية تضع يدها على كل مفاصل الدولة وأجهزتها بما في ذلك الجيش والقوى الأمنية"، فماذا تعني السلطة وما أهميتها؟
فالسلطة هي السيطرة، والتحكم، والقوة، والقدرة على فعل كل شيء، وتكمن في الفئة الأقوى، فليس للسلطان أي قدرة على الحكم إذا لم تكن له قوة تحميه وتنفذ أحكامه التي يصدرها، ويقهر بها المجرمين، ويهدد بها المعتدين، ويقمع بها الخارجين عليه، لذلك فعندما أدرك المدنيون أن الجيش صاحب السلطة بات يناوئهم ولا يساندهم، وعلموا أن خطاب البرهان هو فخ لهم، حيث يعطيهم سلطاناً بلا سلطة، ما يجعلهم تحت رحمته فيفشلهم كما فعل مع الحكومة الانتقالية السابقة فيتم حرقهم سياسياً فتخلو الساحة للجيش ومن يحالفونه من عملاء أمريكا.
إن الصراع بين أهل السلطة والسلطان هو صراع قديم لا يرفعه إلا أحكام الإسلام، فالإنسان بطبعه إذا ملك شيئاً من القوة والسلطة يتحول إلى مستبد، قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾، ولما كانت الأنظمة الوضعية تشرعن لذلك بإطلاق يد الحاكم (الفائز) فيكون الاستبداد لقوى مدنية فيستأثر الحزب الحاكم بالوزارات والمناصب العليا، وامتيازات الوظائف العامة، أو يطلق يد الجيش صاحب السلطة فينتج عن ذلك الفرعون الذي يقول: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ كما قال فرعون سابقا، وقد كرره فرعون هذا الزمان فقال: "إما أن نحكمكم، أو نقتلكم"، كما يفعل طاغية الشام في من يرفض حكمه.
فالحرص كل الحرص على أن لا يتحول السلطان إلى قوة، فيكون استبداد القوى المدنية مثل الحزب الحاكم، ليفرض قيمه ومفاهيمه على الناس، كما فعلت حكومة (قحت) وتفعل كثير من الأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية من مثل التوقيع على اتفاقية العهر (سيداو)، والتطبيع مع كيان يهود وغير ذلك مما يخالف أحكام الإسلام، بالإضافة إلى الفساد المالي والإداري. كما يجب الحرص على أن لا تتحول السلطة (القوة) إلى سلطان فتكون الدولة مليئة ببيوت الأشباح والمعتقلات وغيرها مما يستخدمه المستبدون لقمع شعوبهم وكسر عزائمهم، وقد قيل (الاستبداد أصل كل الفساد)، والخلاصة يجب ألا يتحول السلطان إلى قوة، وإن كان وجودها لا يتأتى إلا به.
وهذه المعادلة الصعبة لا يحلها إلا نظام الإسلام، فقد جعل اللطيف الخبير السيادة للشرع، فليس لأحد كائناً من كان أن يشرع للناس من أهوائه، قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾، ثم تبع ذلك فجعل السلطان للأمة فقضى على الاستبداد ومنع تولي الحكم بغير رضاها وربط كل ذلك بالإيمان، فقال سبحانه: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.
ولن يتحقق الاستقرار في السودان ولا في غيره من البلاد الإسلامية حتى تصطلح السلطة والسلطان، ويكون متحققاً بعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وعودة المسلمين لوظيفتهم الأصلية بإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام وعدله، ونكون بذلك قد قضينا على مسألة الصراع على السلطة في كافة بلاد المسلمين، بل وفي العالم أجمع.
بقلم: الأستاذ ناصر رضا
رئيس لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع