لا تزال فصول التآمر على ثورة الشام متواصلة منذ انطلاقتها، وليس آخر هذه الفصول قمة سوتشي الأخيرة بين الرئيسين التركي والروسي، اللذين يصرّان على مواصلة فصول المؤامرة التي تستهدف القضاء على الثورة، وحماية النظام، وكل ذلك تحت كنف ورعاية أمريكا صاحبة النفوذ الحقيقي في سوريا.
فقد كان للدول الضامنة روسيا وإيران وتركيا الدور الحاسم في تراجع الثورة من خلال الترتيبات التي وضعتها هذه الأطراف في محاولة القضاء على الثورة، وكان للنظام التركي الدور البارز والمهم في احتواء الثورة، ومحاولة تفريغها من مضمونها الذي قامت لأجله وهو إسقاط النظام بدستوره وكافة أركانه ورموزه، ومن بُعدِها العقائدي، لما للشام من أهمية في عقيدة المسلمين وارتباطها بأحاديث النبي ﷺ.
الأهمية الاستراتيجية والبُعد الإيماني العقائدي والنَّفَس الإسلامي للثورة المباركة كان السبب في قرع جرس الإنذار الدولي لمواجهتها، ومدخلاً مهماً لتوحد القوى الدولية في مواجهتها، فوقف النظام الدولي بقضّه وقضيضه مقابل الثورة يريد القضاء عليها، فكان أن انقسمت دول العالم بين عدو واضح العداوة للثورة، استجلب القوات والفرق والمليشيات، وبين صديق يلبس ثوب الصداقة ويدّعي دعمها، التي لم تر منه إلّا الخطابات الرنانة المغلفة بالنَّفَس الإسلامي الذي يُسهّل تمرير النفاق على أهل الشام الثائرين الطامحين لاستعادة العزة والكرامة، ولكن حبل الكذب قصير، فسرعان ما انكشف الغطاء وظهرت الحقائق.
حاولت أمريكا في البداية عبر مؤتمر جنيف وضع حجر الأساس لعملية التغيير ورسم محدداته وشكله القائم على تغيير رأس النظام والمحافظة على النظام العلماني، ودفع قوى الثورة للقبول به، لكنها رفضته في البداية جملةً وتفصيلاً لأنه لا يعبّر عن ثوابت الثورة. ولكن المال السياسي القذر استمال بعض المتنفذين من قيادات الثورة، وكان للخداع التركي الدور الحاسم، فجرّت قيادات الثورة لحضور المؤتمرات وتنفيذ ما يصدر عنها من مخرجات ومقررات، جرت الويلات على ثورة الشام؛ وذلك بعد أن ظهر أن الثورة عصية رغم تدخلات إيران ومليشياتها وحزبها، وبعدها روسيا بمباركة أمريكية.
ومع تدخل الجيش الروسي واصطدامه بقوة الثورة السورية وفشله في القضاء عليها بالمدة التي حددها بثلاثة أشهر وغرقه سنوات في المستنقع السوري، كان التدخل التركي لنجدته ومساعدته في إدارة الصراع، كون النظام التركي قد أظهر نفسه أنه صديق للثورة واستطاع أن يخدع جمهورا واسعا من أهلها، فكان الخنجر الذي طعن الثورة طعنات مسمومة أشرفت منها على الهلاك.
ورغم قيام المخلصين الواعين بالتحذير من خطر الارتماء في أحضان النظام التركي، وأن هذه الأنظمة العلمانية تهمّها مصالحها ومصالح أسيادها المستعمرين، إلّا أن هذه التحذيرات لم تلق آذاناً صاغية، فقام النظام التركي بجرّ (حلفائه) إلى مؤتمرات الخيانة والارتزاق في أستانة، التي تم في كل واحد من مؤتمراتها تسليم منطقة محررة للنظام المجرم، حتى تم تسليم جميع المناطق وتهجير أهلها إلى الشمال.
ومع كل ذلك لم يتوقف برنامج التآمر التركي، فقد لاحق الثائرين إلى الشمال يريد تسليمهم للنظام عبر فصائله التي حوّلها إلى مرتزقة لخدمة مصالح أمريكا في ليبيا وأذربيجان، فانتقل إلى عقد مؤتمرات خاصة بروسيا وتركيا انطلقت في سوتشي المحطة الجديدة، والوكر الفاعل للتآمر على الثورة وأهلها، فكان أن تم في مؤتمره الأول تسليم الطريق الدولي (إم 5) بكل مدنه التي حررها أهل الشام بدماء أبنائهم وتضحياتهم الجسيمة.
وبعد أكثر من سنتين على هذه العملية القذرة التي هجّرت مئات الآلاف من منازلهم وقراهم وأراضيهم ومصادر رزقهم، تأتي قمة مدينة سوتشي الروسية الأخيرة التي عقدها الرئيسان الروسي والتركي لتكشف عن مؤامرة جديدة تستهدف كتابة الفصول الأخيرة لثورة الشام المباركة، فقد صرح أردوغان خلال عودته من روسيا قائلا: "السيد بوتين يحافظ على نهج عادل تجاه تركيا، وبأنه سيكون دائما معنا في مكافحة الإرهاب". وأضاف: "بوتين ألمح لنا بأن الأمر سيكون أكثر دقة لو حاولنا مكافحة الإرهاب بالتعاون مع النظام السوري". ولم ينس أردوغان أن يذكّرنا بأن جهاز المخابرات لديه يتعامل مع مخابرات النظام في بعض القضايا مضيفاً أن الذي يهمه هو النتائج.
اللقاءات المخابراتية بين الدول هي التي ترسم الخطوط السياسية للدول العلمانية، بل هي أهم من اللقاءات السياسية، فهي التي تصوغ الاتفاقيات ليتم لاحقا لقاء السياسيين وإقرار ما تم الاتفاق عليه، وطالما أن أردوغان أعلنها فهي إشارة إلى انطلاق عملية التطبيع مع النظام السوري، رغم أن وزير الخارجية التركي قد أعلن قبل القمة بأيام دعم تركيا السياسي الكامل لنظام أسد في محاربة التنظيمات الإرهابية، والتي حاول بعض المطبلين والمرقعين تبريرها بأنه يقصد المليشيات الكردية التي أنشأها أصلا نظام أسد، فكيف سيدعمون داعم هذه المليشيات لمحاربتها؟!
الحقيقة أن النظام التركي لم يكن يوماً عدواً للنظام السوري المجرم، فهم مجرد أنظمة وظيفية لأمريكا تديرهم خدمة لمصالحها الاستعمارية، وهي من سمحت بدخول النظام التركي إلى سوريا بذريعة المليشيات الكردية والأمن القومي التركي، لتستهدف إجهاض الثورة السورية ومنع تحقيق أهدافها، وخلاصة ما تم الاتفاق عليه في سوتشي بين النظامين الروسي والتركي، هو التعاون والتنسيق بينهما في محاربة كافة التنظيمات الإرهابية والمقصود الفعلي بذلك هو فصائل الثورة السورية بغض النظر عن مسمياتها، وكذلك بند المحافظة على وحدة سوريا وسلامة أراضيها، ويعني المحافظة على نظام الإجرام الأسدي، ودعم الحل السياسي الأمريكي الذي صاغته أمريكا في القرار الأممي رقم 2254 الذي يضمن استمرارية بقاء النظام العلماني العميل في سوريا بغض النظر عن رأسه، مع أن إشارات أمريكا تشي ببقاء رأس النظام رغم تلطخ وجهه ويديه بدماء المسلمين في الشام.
لذلك يجب أن تكون مسألة استعادة الثورة قرارها، والانفكاك من عباءة النظام التركي في رأس أولويات أهل الشام؛ فالنظام التركي وفصائله يعملون على جوانب عدة؛ أولها الضغط على أهل الشام وتجويعهم لنيل صك الاستسلام والقبول بالعودة لأحضان النظام، وثانيها ما يحصل في الفترة الأخيرة من تحرك المنظمات الخبيثة والأحزاب السياسية العلمانية والوطنية التي لفظها أهل الشام، وإعادة إدخالها من تركيا إلى المناطق المحررة لممارسة نشاطها لإبعاد الإسلام عن مركز تنبه المسلمين الثائرين، والذي يتم بالتنسيق بين المخابرات التركية وفصائل الثورة وهيئة تحرير الشام لدفع المسلمين للقبول بدولة علمانية تحت مسمى "دولة مدنية" تحارب الله ورسوله وتقصي الإسلام عن السياسة والدولة والمجتمع.
إن الثورة السورية منصورة رغم تكالب العالم عليها، فالأنفاس التي يحملها أهل الشام تجاه الثورة لم تتغير، ولكن الثورة في أمسّ الحاجة إلى قيادة سياسية واعية مخلصة تحمل مشروع الإسلام العظيم، فترتب صفوف الحاضنة الشعبية للثورة لانتزاع سلطانها ممن تسلّط عليها من فصائل مرتبطة وحكومات وظيفية، ودولٍ ظاهرها دعم الثورة وباطنها الغدر والخيانة.
فإلى عزّ الدنيا ونعيم الآخرة ندعو أهلنا في الشام، وندعوهم إلى تبني مشروع الدستور الذي يقدمه حزب التحرير الرائد الذي لا يكذب أهله؛ للسير بالثورة لتتويج تضحياتهم بحكم الإسلام في ظل الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وذلك هو الفوز العظيم.
رأيك في الموضوع