إذ تكَشَّف أن اجتياح روسيا لأوكرانيا يعتبر فخّاً لروسيا يقع ضمن استراتيجية أمريكية كبرى على المستوى الدولي تهدف أمريكا من ورائها إدامة هيمنتها عالمياً، وتحجيم روسيا واحتواء الصين. ولا شك أن الأهداف الأمريكية من النزاع في أوكرانيا من المستبعد في المدى المنظور أن تتحقق كما تريدها أمريكا، ولكن يبدو أنها بدأت تتحقق ولو جزئياً، ومنها:
- إبعاد الصين عن روسيا وكسر التنسيق في المواقف سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وذلك عبر إنهاك روسيا عسكرياً واقتصادياً وإضعافها بعد شيطنتها وتجريمها وعزلها دولياً ليسهل مستقبلاً ابتزازها وتوظيفها عالمياً، وبالأخص في بلاد المسلمين وتجاه الصين تحديداً. ومن ذلك التحرش والإنذار والتخويف بالعزلة الدولية والتحذيرُ من عواقب مساندة روسيا، ما يسهِّل الانفراد بالصين مستقبلاً.
- إرغام الأوروبيين على الارتماء في أحضانها على الأقل عسكريّاً وأمنيّاً، وهو ما يعني ضرورةَ بقاء وتعزيز مظلة الحماية الأمريكية وقطع الصلة مع روسيا في مسائل الطاقة وغيرها، ومن ذلك حتمية بسط النفوذ الأمريكي بتوسيع دور الحلف الأطلسي في القارة الأوروبية خاصةً في شرقها.
- إبراز عودة أمريكا إلى مكان الريادة والقيادة على الصعيد العالمي بعد ما بدا عليها من انكسار وتضعضع اقتصادي وانحسار في السنوات الماضية وبالأخص بعد ما لاقته في العراق، وهزيمتها وخروجها المذل من أفغانستان.
ومن الواضح أن التطور المتزايد والمتسارع للعلاقات الصينية الروسية بات يشكل الهاجس الأكبر والكابوس الاستراتيجي للسياسة الخارجية الأمريكية. ولطالما حاولت الإدارات الأمريكية المتعاقبة معالجةَ معضلة التقارب الصيني الروسي بضرب العلاقة بشتى الوسائل، ومنها إضعاف روسيا وعرقلة نموها وعزلها وتحييدها وفي الوقت ذاته كبح جماح الصين وتمددها إقليمياً وعالمياً. وقد وصف هنري كيسنجر مُنظر السياسة الخارجية الأمريكية أيام الحرب الباردة مع السوفييت هذا التنسيق بقوله: "إن تقوية العلاقة بين الصين وروسيا يشكل الكابوس الاستراتيجي للسياسة الخارجية الأمريكية". وإذا كانت الصين لا تزال بعيدةً عن مستوى أمريكا عسكرياً وتكنولوجياً، فإن التفوق الأمريكي سينتهي في حال حصول تكامل على الصعيد الأمني والاقتصادي والعسكري وتحالف استراتيجي بين روسيا والصين، من شأنه أن يعزز قدرات الصين العسكرية ويهدد النفوذ الأمريكي عالمياً. لذا فإن الصراع في أوكرانيا يُعد حرباً استباقيةً تخوضها أمريكا لتوجِد بها ظروفَ إبقاءِ هيمنتها على النظام العالمي الذي تفرضه على الجميع.
والحقيقة هي أن أمريكا الرأسمالية تستميت بسواعد ودماء ومآسي الآخرين لإدامة هيمنتها، بل لتفادي الغرق والهبوط أو السقوط، والعالم كله يدفع الثمن! ومن الجلي في هذا النزاع أنْ لا روسيا ولا أوكرانيا تملك قرارَ إنهاء الحرب، فروسيا تعتبِر المتنفذين في كييف دمىً بيد واشنطن لا تمثل الشعب الأوكراني، إذ قرارُ كييف مرتهن أمريكياً، والقيادة الروسية لا تقبل أن تظهر أمام الشعب بمظهر المستسلم أمام ضغوط الغرب خصوصاً في مسألة القرم وأقاليم المناطق الشرقية في أوكرانيا ومسألة الضمانات الأمنية المتعلقة بوضع أوكرانيا المستقبلي أمنياً وسياسياً وعسكرياً! ولا يخفى أن تداعيات هذه الحرب وأبعادها وعواقبَها ستطال العالمَ كله بتخطيط أمريكي، إذ تتعدى المجال الإقليمي وتتجاوز حدود الأطراف المتنازعة إلى الساحة الدولية.
فقد خططت أمريكا منذ البداية لتوريط روسيا في المستنقع بطريقةٍ تمكنها هي من تحقيق مرادها وكل أهدافها عبر التصعيد إلى أقصى حد دون الدخول في صدام مباشر معهم، مستخدمةً الإعلام والدعاية والتضليل والضغط السياسي والاقتصادي والعقوبات والتهديد والاستفزاز والابتزاز، ودون أن تتورط هي في الحرب بجنودها، ولا بتحريك الحلف الأطلسي بشكل مباشر في القتال! وهي الآن تتخذ أيضاً خطواتٍ متسارعة مع كل حلفائها في شرق آسيا (اليابان، كوريا الجنوبية، أستراليا، الهند..) لمحاصرة نفوذ الصين في مجالها الحيوي الجغرافي السياسي.
فأمريكا جعلت من تقديم أي نوع من المساعدة لروسيا جريمة كبرى، بينما هي سمحت لنفسها ولحلفائها الغربيين بإيصال كل أصناف الدعم لأوكرانيا، وهي تعول بقوة على العقوبات الغربية على روسيا لمنعها من تحقيق نصر استراتيجي في أوكرانيا، وللدفع بالصراع نحو الوِجهة المقصودة من الأزمة. فالحرب هي إذن في أوكرانيا والفوائد لأمريكا! إلا أن روسيا في انتظار الفرَج، تدير الهجوم بحذر شديد إذ تعول على الدعم الصيني على الصعيد الاقتصادي خاصةً، وعلى نتائج المعارك في الميدان وطول النفَس والقدرة على احتواء تداعيات الصراع، كما تعول على فرض الحصار العسكري على المدن الأوكرانية ومنع توريد السلاح إلى الأراضي الأوكرانية من الغرب، لغرض فرض شروط التفاوض على ما ستكون عليه أوكرانيا ما بعد انتهاء الحرب، وهي لا تريد التوغل في كامل أوكرانيا، فهي حرب استنزاف وبوتين يدرك ما قد سيعنيه ذلك.
ولكن، يجب ألا ننسى في هذا المضمار أن أمريكا كانت قد اضطُرت اضطراراً لتفعيل دور روسيا الإجرامي في سوريا لمنع قيام كيان للمسلمين في الشام، ولم تتمكن من محاصرة الثورة ومنع سقوط نظام الأسد العميل إلا بعد إقحام وكلائها وأدواتها وبالأخص إيران عبر أذرعها ومليشياتها الطائفية المذهبية، وكذلك تركيا أردوغان مع الفصائل المقاتِلة على الأرض، ثم توظيف روسيا عبر القصف الوحشي وكل أصناف التدمير والتنكيل بأهل الشام.
وقد كان هروب أمريكا المجرمة من مستنقع العراق ثم الانسحاب المذل من أفغانستان بعد إنفاق نحو 2.5 تريليون دولار على مدى عقدين (2001-2020) مؤذناً بتفاقم مشاكل أمريكا الداخلية على الصعيد الاقتصادي، وبتأجيج دواعي التفكك والانقسام بداخلها. فشعار ترامب "لِنجعل أمريكا الأقوى مجدداً" لم يأت من فراغ! يحدث هذا في ظل تراجع اقتصادي وثقافي وسياسي لا تخطئه العين منذ عقود، وتضخمٍ غيرِ مسبوق يضرب الاقتصاد الأمريكي في العمق مع بداية تراجع هيمنة الدولار عالمياً وتفاقم العجز المهول في الميزانية الأمريكية بسبب الإنفاق وطباعة الدولار ومشكلة تراكم الدين العام ووصوله إلى أرقام فلكية. زدْ على ذلك تحدي القوى الصاعدة (مشكلة الصين وروسيا وأوروبا وغيرها..)، دون أن ننسى انهيار سمعة أمريكا عالمياً وتكشّف الوجه القبيح للرأسمالية المتوحشة، ما بات يُصعِّب إنفاذ سياساتها الإجرامية في كل الاتجاهات، إضافةً إلى دور بريطانيا في تأجيج الصراع في بُؤر الاحتكاك مع أمريكا سواء في بلاد المسلمين كاليمن والسودان أو مع الروس في الحرب الأوكرانية بغرض الاستفادة من تغيُّر الموقف الدولي ولو قليلاً لصالحها.
إن المتغيرات على الساحة الدولية جعلت أمريكا غيرَ قادرة على خوض المعارك العسكرية بنفسها، وإن التحولات الجارية قد فرضت عليها أنماطاً مختلفةً من الحروب، وإن الصراعات بين الأعداء الغربيين تتيح دون شك فرصاً ثمينةً لقيام الخلافة في بلاد المسلمين، إذ إن قبضة العملاء على الشعوب ستتلاشى حتماً في أية لحظة في ظل الأحداث المتسارعة، كما أن مواقف القوى الدولية تجاه الأمة الإسلامية وقضاياها قد تتغير لصالح المسلمين في أية محطة من محطات الصراع الآن ومستقبلاً، خصوصاً مع ازدياد الوعي في الأمة على "أكذوبة" الأمم المتحدة ومؤسساتها، وإفلاس الغرب فكرياً وسياسياً، وجور القانون الدولي وإجرامه بحق المسلمين في شتى بقاع الأرض، وخرافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، واحتراق ورقة الحرب على الإرهاب، وافتضاح ازدواجية الغرب ونفاقِه في كل ما يتعلق بأمة محمد ﷺ، الأمر الذي يؤذن حقيقةً بالتمرد الشامل على هذا النظام العالمي الذي صُمِّم ليخدم الغرب الرأسمالي على حساب شعوب الأرض كلها، وهو ما يعني قيام الكيان الذي سيغير القواعد والعلاقات على الصعيد الدولي، ويجسد الحل الجذري لكل مشاكل الأمة الإسلامية، بل ولكل مشاكل العالم. ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لمَاَّ ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً﴾.
إن هذا الإنجاز العظيم هو ما نذر حزبُ التحرير نفسه بكل عزيمة لتحقيقه، وهو أوجب ما يجب شرعاً على المسلمين إقامته وتجسيدُه، كون الخلافة من أعظم الفروض، وهي الجامعة لكلمة المسلمين الموحِّدة للأمة بكل أطيافها. وإذ هي تتجاوز الاختلاف على أساس الموطن واللغة والعرق، فإنها المفعِّلة لكل طاقات الأمة القادرةُ على قطع الحبال مع العدو المستعمِر الغربي وطردِ نفوذه. وهي وحدها المؤهَّلة لتمثيل المسلمين على المسرح الدولي والمجسِّدةُ لعودة الأمة إلى الإسلام على كافة المستويات، الضامنةُ لتحقيق الرقي والازدهار. فضلاً عن أنها تمثل الحل المنبثق من هوية الأمة الإسلامية ومبدئها المتمثلِ في الإسلام الشامخِ الذي عاشت الأمة بكل أعراقها وأطيافها في ظل حكمه وشريعتِه وحضارته في عز ومنَعـةٍ قروناً عديدة. مع التأكيد على أن هذا الحل الشافي ليس هو خياراً من بين خيارات ظرفية، وإنما هو حكم الله في مسألة تحديد ما ينبغي شرعاً أن يكون عليه وضعُ الأمة وحالُها في جميع الأوقات، ومن ذلك علاقة المسلمين مع غيرهم من الشعوب والأمم من حيث وجوب إيصالِ رسالة الهدى والنور ودين الحق إليها. ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.
رأيك في الموضوع