.
دأبت الإدارة الأمريكية على إطلاق تصريحات تتلاعب من خلالها بأعصاب أهل سوريا المكتوين بنار عميلها بشار الأسد، ومهما كررت تصريحات أوباما وجون كيري بأن أيام الأسد أصبحت معدودة وأنه فاقد للشرعية، فالوقائع على الأرض تكشف بوضوح أن أمريكا تعمل على منع سقوطه، بل تغض الطرف عن الدعم الواسع الذي تقدمه إيران وعصاباتها له، في محاولات يائسة لقمع حركة الثورة وكسر إرادة أهل الشام الذين أبوا أن يتجرعوا سم الحل الأمريكي الذي روج له مبعوثوها تحت قبعة الأمم المتحدة من كوفي عنان إلى الأخضر الإبراهيمي إلى دي ميستورا. ومع هذا كله فأمريكا لا تمانع في استمرار سياسة الأرض المحروقة، ولا يرف لها جفن من جراء الجرائم البشعة التي يرتكبها بشار وزبانيته، بينما هي تراهن على دفع أهل الشام إلى الاستسلام لمطالبها.
من هنا فإن أخطر ما حمله الأسبوع الماضي من مجريات يكمن في تصريحات زهران علوش التي أدلى بها في مقابلة مع وكالة "ماكلاتشي" الأمريكية، أجريت في اسطنبول، حيث اعتذر عن خطاباته الحماسية برفض الديمقراطية (قال عنها في إحدى خطبه بأنها تحت أقدامنا) ومطالبته بالدولة الإسلامية، بأنها كانت "نتيجة الضغط النفسي"، بينما أوضح مساعده إسلام علوش بأن التصريحات كانت للاستهلاك المحلي في الداخل، أي لإقناع الأنصار بأن مشروع علوش هو تطبيق الشريعة، كيلا ينفض الناس عنه ويلتحقوا بتنظيم الدولة.
وقد أتت هذه التصريحات ضمن الجولة الخارجية التي يقوم بها زهران علوش منذ أسابيع، تنقل فيها بين اسطنبول والرياض وقطر والأردن، والتقى خلالها بقائد حركة أحرار الشام هاشم الشيخ وقائد صقور الشام عيسى الشيخ، كما التقى بقيادات الائتلاف الوطني في اسطنبول ومن المقرر أن يكمل جولة لقاءاته مع قيادات الجبهة الجنوبية في الأردن. والمتابع لهذه اللقاءات وما يتسرب عنها، وما ينشر عنها من مواقف يجد أن علوش يسعى ضمن توجه للتهيئة لمؤتمر الرياض الذي كان من المقرر عقده في منتصف أيار قبل أن تقرر الرياض تأجيله إلى ما بعد رمضان مفسحة المجال لاستكمال التحضيرات اللازمة للإعلان عن مرحلة ما بعد الأسد، بحيث تطرح على الساحة ورقة عمل متكاملة: ذات شق سياسي (في الخارج والداخل) وشق عسكري (في الخارج والداخل).
وكان علوش أجرى عرضا عسكريا لافتا في الغوطة على بعد كيلومترات من قصر الشعب في دمشق، حيث يقيم بشار الأسد وعائلته، وشمل العرض 1700 مقاتل أنهوا دورة تدريب عسكري في الغوطة، الضاحية الشرقية لدمشق، كل هذا على مسمع وبصر الأسد، الذي كان مشغولا بصب حمم البراميل المتفجرة في إدلب وحماة وحلب ودرعا، أما الشوكة في حلقه في الغوطة فكانت بمأمن من بطشه وإجرامه.
وفي سباق مع الوقت قام النظام السوري بتسليم مدينة تدمر لتنظيم الدولة، فحسب مصادر أوروبية، وبعكس ما قيل عن "قتالٍ ضارٍ بين قوات الأسد وتنظيم الدولة، فقد تم التقاط أوامر صادرة عن القيادة العسكرية في دمشق تأمر القوات الموجودة في "تدمر" بالاكتفاء بـ"مقاومة محدودة" أمام تقدّم التنظيم والمبادرة إلى الانسحاب من المدينة!
وكانت محطة "سي إن إن" قد نقلت، في يوم سقوط تدمر، في تقرير من واشنطن أن مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الأمريكي، قال إن قوات الجيش العراقي التي كانت موجودة في مدينة "الرمادي"، كبرى مدن محافظة "الأنبار"، اختارت الانسحاب من المدينة، تاركة خلفها "مئات الآليات والعتاد العسكري، ولم يجبرها على ذلك تنظيم الدولة الإسلامية.
وهكذا قامت قوات النظام السوري بالانسحاب من منفذ "التنف" الحدودي مع العراق، وبعده بثلاثة أيام (24/5/2015) أعلنت مصادر أمنية ورسمية عراقية سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" على منفذ "الوليد" الحدودي العراقي. وقال ضابط برتبة عقيد في شرطة الأنبار إن "مسلحي التنظيم سيطروا بالكامل على منفذ الوليد الحدودي بعد انسحاب قوات الجيش وحرس الحدود".
هذه الانسحابات للقوات النظامية في العراق وسوريا، واستيلاء تنظيم الدولة على العتاد العسكري مع حرية نقله بأمان عبر مئات الكيلومترات ما بين الأنبار ودير الزور وتدمر والرقة، تجعل منه القوة الضاربة في الساحة السورية، كما تفرض التساؤل عن الخطوة القادمة للتنظيم، فتدمر هي عقدة مواصلات استراتيجية يمكن لتنظيم الدولة الانطلاق منها شمالاً وجنوبًا وغربًا للتوسع تجاه حماة وحمص ودمشق مستخدمًا ما تحصل عليه من أسلحة وأفراد، ويمكنه من وصل مناطق نفوذه وطرقه بعضها ببعض.
كما أنَّه يمكن أن يقطع أي اتصال قد يحصل مستقبلاً بين جيش الفتح في ريف إدلب وبين جيش الفتح في القلمون، بل ويضرب الكتائب المتقدمة في إدلب، وحوران، وتضييق الخناق والحصار على الكتائب في ريف حمص، والغوطة، ودير الزور. كما سيؤدي إلى تقطيع أوصال المناطق المحررة بالكامل وفك الارتباط بينها.
وإذا قام التنظيم بحملة إعدامات ضد بعض الأقليات أو بتدمير بعض الآثار الشهيرة في تدمر فكل هذا سوف يعطي مصداقية لمزاعم سفاح دمشق بأن نظامه هو الكفيل بمنع خطر الإرهابيين التكفيريين، وأنه خير من يحافظ على مصالح الغرب. فعلى إثر سقوط تدمر أكد نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف أن "الولايات المتحدة فهمت أنه ليس هناك بديل للرئيس السوري بشار الأسد وحكومته". وقال "زملاؤنا الأمريكيون أدركوا شيئا واحدا، أنه لا بديل الآن عن بشار الأسد والحكومة الحالية. وإذا حصل معهم شيء ما، فإن السلطة والأراضي السورية بالكامل سيأخذها المتطرفون والإرهابيون من داعش، وستكون صومال الثانية، وليبيا الثانية، وهذا سيناريو خطير للغاية".
هكذا يتضح أن أمريكا تسعى عبر أدواتها للإطباق على ثورة الشام وتحاول كسر إرادة أهل الشام الصابرين، بينما تثبت انتصارات الثوار في إدلب أنهم قادرون على حسم الصراع عسكريا حين ينجحون في توحيد كلمتهم وقرارهم. أما حين يصرح علوش مداهنة لأمريكا والغرب فهذه هي الهزيمة المحققة، ونقول لمن اعتبره ذكاء سياسيا ومناورة منه، إن لكم دروسا وعبراً من الجهاد الأفغاني فاتعظوا بها.
ونحن من حرصنا على ثورة الشام نناشد المخلصين الصادقين من قادتها بأن يركنوا إلى قوة رب العالمين وينخلعوا من الاتكال على حبال أعداء الدين في الغرب وعملائهم من الحكام، ومن كان مع الله فلن يضيعه، ومن آوى إلى ركن الله الحصين فلن يضره كيد الأعداء ولا الخائنين. ونذكرهم بقول الحق سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
رأيك في الموضوع