قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾، لقد خلط علماء زماننا في تفسير هذه الآية خلطا عجيبا، لأن معظم الأبحاث التي تناولتها قد حصرتها في التغيير الفردي، وأبعدتها كل البعد عن التغيير الحركي الجماعي الذي يطيح بحكومات دويلات الضرار القائمة اليوم في البلاد الإسلامية، ولا تحكم واحدة منها بما أنزل الله، وكأن أولئك العلماء وكلاء تثبيت لحكام الجبر والجور! إذ لم تتطرق ألفاظ هذه الآية إلى الفردية نهائيا، وإنما كانت كلها بصيغة الجمع (بِقَوْمٍ ، يُغَيِّرُوا ، بِأَنفُسِهِمْ) ولذلك تصرف هذه الآية نهائيا عن إصلاح الأفراد، والبدء بإصلاح النفوس وما شاكل ذلك من الأحكام الشرعية مما هو متعلق بالسلوك الفردي، ولا بد من صرفها إلى السلوك الجماعي الحركي المجتمعي الذي يحدث التغيير المنشود في الأمة.
والتغيير قد ورد ذكره أيضا في سورة الأنفال في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. ومن لطائف ما لاحظت أن هذه الآية قد وقعت بين آيتين تتحدثان عن قوم فرعون والذين من قبلهم (أقوام ودول وأنظمة وليس أفرادا)، وأن الله قد أخذهم بذنوبهم، ووصفهم بأنهم كانوا ظالمين، ومعلوم أن الظلم لا يقع من جميع الأفراد، وإنما من الملأ والجنود الذين يحرسونهم ويحرسون نظامهم الفاسد. فغيّر الله عليهم وعلى أقوامهم لما غيروا ما بأنفسهم، فطال التغيير جميعهم، وليس الذين ظلموا منهم خاصة، مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾. فالسياق هو سياق تغيير جماعي وليس فرديا.
قال القرطبي: أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب. كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة. فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير، كما قال ﷺ وقد سئل: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ». اهـ
وقال الطبري: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ﴾، من عافية ونعمة، فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم ﴿حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ من ذلك بظلم بعضهم بعضاً، واعتداء بعضهم على بعض، فَتَحلَّ بهم حينئذ عقوبته وتغييره. وأوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا تحول لهم مما يحبون إلى ما يكرهون، ثم قال: إن مصداق ذلك في كتاب الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾. وفي الحديث القدسي، «قَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، وَارْتِفَاعِي فَوْقَ عَرْشِي، مَا مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلَا أَهْلِ بَيْتٍ كَانُوا عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ مَعْصِيَتِي، ثُمَّ تَحَوَّلُوا عَنْهَا إِلَى مَا أَحْبَبْتُ مِنْ طَاعَتِي، إِلَّا تَحَوَّلْتُ لَهُمْ عَمَّا يَكْرَهُونَ مِنْ عَذَابِي إِلَى مَا يُحِبُّونَ مِنْ رَحْمَتِي». اهـ
ويقسم التغيير إلى قسمين: إيجابي وسلبي، وإذا تتبعنا التغييرات الكبيرة في تاريخ أمتنا الإسلامية، فإننا نجد أن التغيير الإيجابي الأول قد حصل مع تكتل الصحابة حول النبي ﷺ، وكانوا كتلة متميزة عن المجتمع المكي، وكانوا متحدين في عقيدتهم وأفكارهم ونضالهم وكفاحهم السياسي وصراعهم الفكري مع المجتمع القرشي المكي، وما حوله من قبائل ومجتمعات. وهذه الصفة المخصوصة التي تحلَّوْا بها كانت هي الصفة المطلوبة التي تلزم من أجل التغيير، وهم الذين غيروا ما بأنفسهم، وسلكوا طريقا تغييريّاً في المجتمع حتى التحمت الدعوة مع المنعة في المدينة المنورة، فغير الله ما بالناس في المدينة ومكة وباقي أنحاء الجزيرة العربية، وامتدت آثار ذلك التغيير إلى معظم أنحاء العالم القديم، ونَعِم المسلمون بهذا التغيير قرونا عديدة، وهذا هو التغيير الشرعي، وهو الصورة الأصلية التي يستنسخ منها التغيير كلما لزم. ثم كان التغيير السلبي الأول على أيدي المارقين الفاسدين، وهم: أتباع تركيا الفتاة وما عرف بعد ذلك بجمعية الاتحاد والترقي، وأتباع العربية الفتاة وما عرف بالقوميين العرب، وهم الذين قاموا ضد الخلافة العثمانية، وعملوا على تفكيك المنظومة الإسلامية الحاكمة للمسلمين، والطعن في كل ما هو إسلامي، وغيروا ما بأنفسهم من ولاء وطاعة للخلافة. ولما سكت عموم المسلمين عنهم وعن فسادهم وإفسادهم، غيّر الله ما بالمسلمين جميعا بسبب ذلك، وهدمت الخلافة، وضاع المسلمون أيما ضياع حتى يومنا هذا منذ مائة عام ونيف.
ونحن اليوم على أبواب التغيير الإيجابي الثاني والأخير، وذلك بعد أن قام حزب التحرير ومن يؤيده في إقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، بتغيير ما بأنفسهم وفق المنهج الشرعي المقرر في التغيير، ويشبه عملُه عملَ كتلة الصحابة الكرام الذين سعوا لإيجاد التغيير الإيجابي الأول، فكان الحزب في عقيدته وبنائه الكتلوي ومتبنياته وفعالياته التغييرية ومنهاجه الحركي في حمل دعوة الإسلام، ومقارعة الظالمين، ومناهضة الحكام الفاسدين، وباستنساخه لأحكام التشريع التغييري واتباعه لها بدقة متناهية، ومحاولاته الجادة لرفع الوعي عند المسلمين من أجل إنهاضهم، ودأبه على الاتصال بأهل القوة والمنعة كي تلتحم الدعوة والمنعة في بيعة "العقبة" الثالثة، كما التحمت أول مرة في بيعة العقبة الثانية، فتقوم دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، الموعودة من الله عز وجل، والمبشر بها من رسول الله ﷺ، والتي نسأل الله تعالى أن يكرم المسلمين بها عما قريب. ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
رأيك في الموضوع