تحدثنا في الحلقة السابقة عن موقف المسلمين بشكل عام من محاولات الغرب تجاه دمج كيان يهود في المحيط الإسلامي، والفشل الذريع الذي واجهوه... أما ما يتعلق بواجب الأمة تجاه الأقصى وأكنافه المباركة فقد حدده الواجب الشرعي، وليس الأمر خاضعا لاجتهادات المسلمين. وقد مرّ بيت المقدس بواقع يشبه هذا الواقع الذي نعيشه اليوم؛ حيث أسس الصليبيون مملكة بيت المقدس سنة 1099م، واحتلوا معظم المدن في الساحل الفلسطيني والوسط، وأتبعوها للمملكة؛ مثل عكا وقيسارية وبيسان وطبريا والرملة واللد وعسقلان وغزة ونابلس وبيت لحم، ومدن أخرى.
لقد حدد علماء المسلمين في العصر الصليبي طريقة التعامل مع الصليبيين، بناء على فهم القرآن والسنة أمثال العالم: ابن الجوزي الذي ألقى الخطبة الشهيرة من الجامع الأموي فحث على الجهاد، وابن تيمية الذي رافق الجيوش في حرب الصليبيين، وكان من دعاة الوحدة بين المسلمين أبو الحسن علي بن مسلم الدمشقي وطاهر بن نصر الله، الذي ألف كتاباً في فضل الجهاد في عهد نور الدين، والشيخ أبو القاسم الأنصاري الذي كان قاضياً للقدس عندما اجتاحها الصليبيون، والشيخ أبو القاسم الرازي الذي استشهد مدافعاً عن ثرى القدس الشريف، والفقيه أبو عبد الله الحسين بن الحسن الشهرستاني، الذي خرج مع الجموع إلى أنطاكية فاستشهد فيها، والإمام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي، والقاضي أبو الفضل بن الخشاب، الذي قاد الجهاد ضد الصليبيين؛ خاصة في معركة البلاط. وهناك العشرات من العلماء والخطباء غيرهم؛ قادوا الجهاد ضد الصليبيين، واستشهدوا على ثرى بيت المقدس والشام، وقد استندوا إلى وجوب تحرير البلاد الإسلامية التي أصبحت أرضا خراجية منذ فتحها في عهد الفاروق رضي الله عنه، واستندوا كذلك إلى وجوب تطهير مسرى رسول الله ﷺ من رجس الصليبيين، وأثاروا الحمية في نفوس الأمة حكاما ورعية ما دفع المسلمين للنهوض والاتحاد في وحدة واحدة، فنهض آل زنكي ثم الأيوبيون ثم المماليك، وطهروا هذه البلاد من رجس الصليبيين بلدا بلدا، وحرروا المسجد الأقصى ومدينة القدس 583هـ.
إن الشرع يوجب على الأمة الإسلامية اليوم ما يلي:
1- الاتحاد تحت لواء الإسلام، وتطبيق حكم الله عز وجل؛ تماما كما اتحد أهل مصر والشام تحت راية الإسلام قبل الفتح الصلاحي.
2- خلع كل هؤلاء الرويبضات من الحكام، والانعتاق من كافة المعاهدات التي وقعت سابقا.
3- تجييش الأمة الإسلامية في وجه يهود والصليبيين الجدد في معركة مصيرية، وإثارة روح الجهاد فيها؛ كما فعل آل زنكي والأيوبيون والمماليك.
4- خلع شجرة يهود الخبيثة السامة من الأرض الطيبة المباركة؛ حتى لا يبقى لهم أي أثر فيها، وجعلهم عبرة لمن خلفهم من قوى الغرب المجرمة.
5- إعادة بيت المقدس إلى حاضنة الأمة (الخلافة الإسلامية) كما كانت من قبل جزءاً من ولاية الشام.
إن هذه الأعمال لا تتحقق بالأمنيات، ولا بالدعاء فقط، وإنما على الأمة أن تبذل التضحيات الجسام لتحققها. وقبل كل ذلك أن تلتف الأمة حول المخلصين من أبنائها؛ ممن يحملون الإسلام الصافي النقي، وتنبذ ما سواهم من قوى قومية ووطنية وحتى إسلامية مزورة لا تعرف من الإسلام إلا اسمه فقط.
ونصل إلى الزاوية الأخيرة في هذا الموضوع وهي: بيت المقدس شرارة التغيير وهي عقر دار الإسلام في آخر الزمان.
والحقيقة أن بيت المقدس عزيز على الله عز وجل، عزيزة على الأمة الإسلامية، ولو دعي المسلمون للجهاد فيه وفُتح المجال بحق وحقيقة لرأيت الملايين يصطفون على الحدود ينتظرون الجهاد.
لقد كان اغتصاب بيت المقدس شرارة التغيير التي وحدت الأمة ثلاث مرات في التاريخ الإسلامي؛ مرة في عهد الصليبيين، ومرة في عهد المغول، ومرة ثالثة في عهد المماليك. وكان لبيت المقدس ووقوعه تحت سطوة اليهود الفضل الأول في استنهاض الأمة نحو الوحدة لإعادة مجد الإسلام أولا ثم تحرير بيت المقدس. نعم لقد كان لاغتصاب يهود للمسجد الأقصى المبارك الأثر الأول لنشوء حزب التحرير، الذي يدعو إلى تحرر الأمة من حكامها، وإلى تحررها من الأفكار الوضيعة الهابطة، وتحرير بلادها ومنها المسجد الأقصى المبارك.
ونصل إلى الزاوية الأخيرة وهي مستقبل بيت المقدس في ظل الخلافة الراشدة الثانية وقبل ذلك نذكّر بمستقبل هذه الأمة الكريمة التي وصفها ربها فقال سبحانه: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾، وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾. ووصفها رسولها عليه الصلاة والسلام فقال: «مِثْلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ الْغَيْثِ لَا يَدْرِي أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَوْ آخِرُهُ» رواه أحمد في مسنده وقال: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» رواه مسلم، وفي رواية عند الإمام أحمد «بِبَيتِ المقدِس وأكنَافِ بيتِ المقدِس»، وقال ﷺ: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ، وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ» رواه أحمد.
إن هذه الأمة هي أمة حية لا تموت أبدا، وإن بيت المقدس هو قلبها النابض، ومنه تبدأ شرارة الحث على استنهاض الأمة. وقد بشر الرسول ﷺ بأن بيت المقدس سيكون عقر دار الإسلام في آخر الزمان تنطلق منه الجيوش لفتح البلاد، وخاصة روما بشارة الفتح الثاني، الذي اقترن بفتح القسطنطينية. قال ﷺ: «يَا ابْنَ حَوَالَةَ، إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَتْ أَرْضَ الْمُقَدَّسَةِ فَقَدْ دَنَتْ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَابِلُ وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ، وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنَ النَّاسِ مِنْ يَدِي هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ». ذكره الحاكم في المستدرك.
إن أمة الإسلام تنتظر اليوم بفارغ الصبر تحرير المسجد الأقصى المبارك، وهذا الأمر هو وعد رباني؛ ذكره الحق تعالى في آية قطعية الدلالة، وذكره الرسول ﷺ في حديث صحيح؛ قال تعالى: ﴿عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾، والمعنى إذا عدتم إلى الفساد عدنا إلى عذابكم وقتلكم كما حصل في المرة الأولى والثانية عندما خلعتم من بيت المقدس. وقال ﷺ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ» رواه مسلم
فنسأله سبحانه وتعالى أن يعجل بزوال هؤلاء الرويبضات من طريق أسود الأمة، لتسير هذه الأسود لتوحيد بلاد الإسلام، والانطلاق نحو بيت المقدس، لتطهيره من يهود، إنه قريب سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
رأيك في الموضوع