عمدت أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية إلى ربط كل اقتصادات العالم بها، بحيث عملت على إيجاد دولار عالمي (عملة عالمية تستند لها جميع احتياطات العالم)، وهذا الدولار يديره البنك الفيدرالي المركزي الذي تؤثر قراراته على الاقتصاد الأمريكي، وبالتالي على اقتصادات العالم برمته، ما يجعله أقوى فاعل في الاقتصاد العالمي فهو لا يعتبر شركة، أو وكالة حكومية ورئيسه ليس رجلا ينتخب، فقد تأسس رسميا عام 1913 إلا أنه كان موجوداً قبل هذا التاريخ، وبعد عملية فصل الدولار عن الذهب بشكل كامل بما عرف بـ(صدمة نيكسون). حيث أخذ سلسلة من التدابير الاقتصادية قام بها الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في عام 1971 وأهمها:
إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار الأمريكي إلى الذهب، فأخذ فجوة عالمية تم الخروج منها بربط الدولار بالنفط بما عرف بـ(البترودولار).
ولذلك يعد الدولار اليوم العملة الأكثر استخداما في التجارة الدولية، والعملة الرئيسية في احتياطي العملات التي تحتفظ بها المصارف والدول، وأصبح الدولار يكسب قوته من قوة أمريكا اقتصاديا وعسكريا، وإعادة تدوير البترودولار والإيداعات الآجلة بالدولار خارج مصارف أمريكا.
ومن هنا وعبر معاناة جميع الدول من هيمنة الدولار على الأسواق العالمية، واقتصاداتها نجد العالم اليوم يتطلع للتخلص من هذه الهيمنة. وقد يساعدها حاليا الواقع التكنولوجي الجديد ما يتطلب سرعة في الأداء، وسهولة في التعامل، وهذا ما ظهر بالتعاملات الرقمية غير الرسمية؛ فهي تسمح بتعاملات فورية، ونقل الملكية بلا حدود ولا رقابة وهي التي تعود إلى عام 1990م، فهو قرن فقاعة التكنولوجيا وكان أول هذه المنتجات هو الذهب الإلكتروني.
وفي عام 1996م تأسس موقع (ليبيري ريسرف) الذي يسمح بتحويل العملة الرقمية إلى الدولار أو اليورو بعمولة لا تتجاوز 1% إلا أن الحكومة الأمريكية أغلقته تماما بحجة أنه يسمح بغسيل الأموال والتعاملات غير القانونية.
ومنذ 2009 أخذت العملات المشفرة اهتماماً متجددا وذلك مع ظهور عملة البيتكوين؛ لتصبح الأكثر استخداما وقبولا على نطاق واسع ما دفع أمريكا بموافقة صينية لضرب هذه العملات في 16/11/2021 حيث خسرت حوالي 250 مليار دولار في غضون 24 ساعة فقط، وهبطت قيمتها السوقية من قرابة 3 مليارات إلى 2.78 مليار دولار، وذلك بعد إجراءات عدة أهمها:
فرض أمريكا قانوناً ضريبياً على الأصول الرقمية للعملات المشفرة بما يزيد على 10 آلاف دولار حيث يدخل 28 مليار دولار إلى الخزينة الأمريكية من مالكي هذه العملات، وقيام الصين بعمليات تعدين العملات الرقمية عمدا (وهذا يضر بالعملات الرقمية غير الرسمية ويفيد اليوان الرقمي)؛ لأن الصين أنشأت اليوان الرقمي الخاص ببنك الشعب الصيني عام 2014 وتتداول به داخل بلادها وهو أكبر مهدد لهيمنة الدولار كعملة عالمية.
ولكن هذه الحلول لا تنفع أمريكا في حال أرادت المحافظة على هيمنة الدولار، وهذه العملات تفرض نفسها في التطور التكنولوجي وسرعة التعاملات ما يهدد وجود النظام المصرفي الذي نعرفه اليوم.
لذلك أرغمت أمريكا على التفكير والمضي قدما إذا ما أرادت الحفاظ على هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، وقطع الطريق على كل من يحاول إخراجه من هذه الهيمنة، فقامت بدراسة مشروع الدولار الرقمي (أي عملة رقمية ذات قيمة مثبتة بالدولار الأمريكي، وذات قيمة محفوظة لحفظ استقرارها وقيمتها).
وذلك عبر مجموعتين:
الأولى يشرف عليها المصرف الاحتياطي الفيدرالي في بوسطن ومعهد ماساتشوستسي، فهو يدرسه من ناحية نظرية، ويجرب طرقاً مختلفة للوصول إلى نظام عملة رقمية مدعومة فيدرالياً وآمنة وقابلة لأي تطور مالي أو تكنولوجي.
والثانية تشرف عليها مؤسسة الدولار الرقمي وشركة أكستنشر، فقد أطلقت تجارب عدة بهدف الحصول على بيانات واقعية تساعد على معرفة ثغرات وآفاق الدولار الرقمي.
وتعتبر هذه الدراسات متأخرة في هذا المجال حيث إن المصرف المركزي الأوروبي، ومصرف إنجلترا، ومصرف اليابان يملكون تصوراً متقدماً جداً، حيث إن المصرف المركزي الأوروبي له دراسة تمكنه خلال عامين من تنفيذ فكرة اليورو الرقمي.
وبعد طول انتظار يصدر الفيدرالي الأمريكي ورقة بحثية حول الدولار الرقمي، وهي مكونة من 40 صفحة وتتركز على ذكر المشاكل السلبية من مخاطر الاستقرار المالي، وحماية الخصوصية والحماية من الاحتيال والقضايا غير القانونية الأخرى.
وهذه الدراسة حتى تأخذ منحى التطبيق تحتاج إلى تفويض من الكونغرس، وحسب (CNBC) كان من المتوقع صدور هذه الورقة البحثية في صيف 2021 ولكن تم تأجيلها إلى 22/01/2022 لمزيد من التركيز. حيث أعرب العديد من مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي عن شكوكهم بشأن الدولار الرقمي قائلين إن الفوائد ليست واضحة.
ومن سلبياته:
النقود الرقمية الحالية هي مسؤولية البنوك التجارية من حيث إن العملة الرقمية للبنك المركزي هي مسؤولية بنك الاحتياطي الفيدرالي.
استنزاف الودائع من البنوك التقليدية بجانب المشكلات المتعلقة بالخصوصية.
صعوبة الموازنة بين حماية حقوق خصوصية المستهلك، وتوفير الشفافية اللازمة لردع الأنشطة الإجرامية.
تقلص الأرباح التي يحصل عليها النظام المالي اليوم بسبب المنافسة الشديدة والمباشرة على الإيداعات.
كيفية تخزين بيانات الهوية والدفع بطريقة تحمي الخصوصية، وتمكين الهيئات التشريعية من التأكد أن عملية الدفع قانونية.
قد يحدث الدولار الرقمي أثراً واسعا على عملات المصارف المركزية الرقمية الأخرى سلبا، ويطمس السياسة النقدية للدول الأم عبر العالم.
وهناك آثار جانبية سلبية في حالة ظهور دولار رقمي أو في حالة عدم ظهوره على واقع التعامل المالي الرأسمالي.
ويتوجب على أمريكا التحرك بوتيرة أسرع إذا ما أرادات المحافظة على هيمنة الدولار وخاصة لترميم البنية التحتية المالية.
وحسب التقرير الذي نشرته صحيفة وول ستريت جورنال، فإن السباق يدور حول ترميز كل أشكال الأصول المالية، وهذا يشمل الملكية والحقوق والالتزامات في مجال البلوك تشين الذي أحدث تفوقا ملحوظا على النظام المالي الحالي.
ولهذا سوف نجد أن أمريكا تسرع في وضع خطوط بحيث تسمح لأي عملة مركزية رقمية بالظهور، كون كل الدول سبقتها في هذا المجال، على أن تكون كل هذه العملات الرقمية المركزية مربوطة بالدولار الرقمي، وهذا لن يقبل طواعية بل سوف تنشئ عبره تناحرات وجدلاً يؤدي إلى كسر عظام أو ما شابه ذلك، حتى تستطيع فرض ذلك، وهي الوحيدة القادرة على فرضه.
لذلك تناسبها الفوضى العارمة في العالم، ويناسبها نشوب نزاعات مسلحة دولية تؤدي إلى إضعاف البنى التحتية لدول تفكر بهدم السيطرة الأمريكية.
ومع ذلك فإن كتب لها النجاح أو الفشل نبقى ندور في فلك الرأسمالية، وننتقل من الرأسمالية الحالية إلى رأسمالية يتغير فيها شكل الدولار ومن يهيمن عليه ومن يتحكم به من جديد، وتبقى أدوات الرأسمالية، ونظامها الجشع يتحكم بمعيشة البشر وأرزاقهم.
إن البشرية اليوم بحاجة إلى تغيير النظام الرأسمالي الذي أورثها كل هذه الفوضى والشقاء، وتطبيق نظام آخر ينقذها مما هي فيه، ولا يوجد سوى مبدأ الإسلام المنهج الرباني بنظامه الاقتصادي الذي لا ينتمي لهذا النظام الجشع، بل لا يحمل أدواته الحقيرة التي تهدف إلى قهر الشعوب ونهبها والتحكم فيها وبمستقبلها.
إن الإسلام لا يعتمد على عملات سوى الذهب والفضة وما ينوب عنهما، وبذلك تحميه من عمليات التضخم والنصب والاحتيال والمضاربات والقمار وغسيل الأموال والجريمة المنظمة وكل أشكال الاستغلال. ويضمن تمكين كل فرد من إشباع حاجاته الأساسية إشباعا كليا، وتمكينه من إشباع الحاجات الكمالية على أرفع مستوى.
بقلم: الأستاذ نبيل عبد الكريم
رأيك في الموضوع