لقد اهتمت أمريكا بالشمال الأفريقي منذ خمسينات القرن الماضي، وظلت تصارع أوروبا لتزيحها وتحل مكانها في مستعمراتها طوال هذه الفترة، وإن لوحظ أن هذا الصراع يشتد تارة ويخف تارة وفق الظروف الدولية والإقليمية. ومع أن أمريكا قد نجحت في إدخال نفوذها في كثير من مناطق الشرق الأوسط وحوض النيل على حساب النفوذ الأوروبي، خاصة بريطانيا وفرنسا، إلا أن نفوذها لم يستقر مطلقا في شمال أفريقيا، لأن الأولوية كانت عند أمريكا لمنطقة الشرق الأوسط مع حوض النيل.
فأمريكا تدرك جيّدا أن الوسط السياسي في الشمال الأفريقي هو لأوروبا، ولذلك عمدت إلى وسائل أخرى غير الأعمال السياسية المعتادة مع الوسط السياسي للنفاذ إلى المنطقة، ومن أبرزها أمران: الأول موضوع الإرهاب واستغلاله للاتفاقيات العسكرية والنفاذ عن طريق الجيش والتدريب والمساعدات العسكرية ثم القواعد العسكرية. والثاني المساعدات الاقتصادية والمؤسسات المالية الدولية التابعة على غرار البنك وصندوق النقد الدوليين، وكانت أمريكا تحرك هذين الأمرين باستمرار إلا في فترات تقع في باب استراحة المحارب.
ونتيجة للهاجس المتصاعد للغرب وعلى رأسه أمريكا بقرب قيام دولة للمسلمين تنهي تحكم الاستعمار في بلاد الإسلام، فقد سارعت أمريكا إلى محاولة صياغة المنطقة الإسلامية بمشاريع هيمنة عليها مثل "الشرق الأوسط الكبير" في 2003، ثم عدّلته إلى "مشروع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" وقدّمته إلى الدول الصناعية الثماني التي انعقدت في حزيران 2004 بمنطقة سي آيلاند. وقد أراد الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن لأردوغان رئاسة مشروع الشرق الأوسط الكبير بعد حصوله على ميدالية الشجاعة اليهودية من اللوبي اليهودي في أمريكا، وذلك بحسب اعترافات الراحل نجم الدين أربكان، أستاذ أردوغان - قبل انفصاله عنه - في مؤتمر خاص عقد في 2007 بمركز أبحاث الاقتصاد والاجتماع في تركيا. ولذلك، صار التطبيع مع كيان يهود حجر الزاوية في هذا المشروع الذي يرعاه النظام التركي، ولعلّ هذا هو سر تقارب تركيا في الفترة الأخيرة مع بقية الأنظمة المطبعة في المنطقة على غرار مصر والسعودية وقطر والإمارات، وحتى المغرب التي التحقت أخيرا بقافلة المطبعين.
وسعيا لمنع قيام الخلافة الراشدة التي صارت تدق باب الساحة الدولية، فقد سعت أمريكا إلى تطويق البلاد الإسلامية بالقواعد العسكرية برّا والبوارج الحربية بحرا. وكان من محاولات إنشاء القواعد القرار الذي اتخذه جورج بوش الابن في 06/02/2007م بإنشاء قيادة عسكرية أمريكية في أفريقيا "أفريكوم".
ثم أمام موجة الثورات العربية التي انطلقت شرارتها من قلب الشمال الأفريقي تونس أواخر 2010، ازداد الاهتمام الأمريكي بهذه المنطقة، وصارت ضمن أولويّات البيت الأبيض من أجل الحفاظ على التفرد بتسيير دفة السياسة العالمية دون منافس، لتسارع أمريكا بحسم الأمور في مصر لصالح عميلها السيسي، وتجد لنفسها موطئ قدم في ليبيا مستعينة بتركيا، وترغم كلاً من تونس والمغرب على توقيع اتفاقيات تعاون في المجالين الأمني والعسكري، فضلا على إسنادهما صفة "حليف أساسي" من خارج الناتو، وتنشئ قاعدة عسكرية تابعة للأفريكوم جنوب إسبانيا على تخوم شمال أفريقيا، وتعيد ترتيب الأوراق في السودان لصالح رجالاتها من العسكر وتحاول فرض الحلول الأمريكية على عملاء بريطانيا، وتسعى إلى افتعال الأزمات وزعزعة نفوذ الأوروبيين في المنطقة على غرار ما يفعله زعيم جبهة البوليساريو ضد النظام المغربي وما تشكله منطقة الصحراء الغربية من خطر على الجارة الجزائرية أيضا، وكل ذلك يصب في سياق واحد في علاقة بالصراع على الشمال الأفريقي، هو الوصول إلى الجزائر ذات الثقل الاستراتيجي في المنطقة بعد محاوطة أطرافها وتطويقها بالكامل.
نعم، إن الجزائر هي دولة ذات شأن، قاومت مخططات أمريكا منذ عهد بومدين، وتصدت لكل محاولات إنشاء قاعدة عسكرية للأفريكوم، لا في الجزائر فحسب، بل في تونس وليبيا أيضا.
ولكن أمام تغير المعطيات الإقليمية والدولية، والتي تُرجمت على أرض الواقع بتراجع نفوذ بريطانيا في كل من ليبيا وتونس، وبغياب التنسيق بين الأوروبيين أنفسهم في مواجهة التمدد الأمريكي في المنطقة، فإن الجزائر صارت مهددة من أمريكا أكثر من أي وقت مضى، خاصة بعد حسم الأمور في الشرق الأوسط لصالح بقاء النظام السوري برئيسه المجرم بشار الأسد، وما لذلك من دلالة على مسار الثورات العربية وعلى مواقف الجزائر التي صارت تُدفع نحو التطبيع الكلّي مع النظام السوري.
هذا القلق البريطاني، على مصير بلد يقع تحت نفوذها بحجم الجزائر، تُرجم منذ أشهر على لسان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ضمن برنامج "لقاء خاص" الذي بث على قناة الجزيرة يوم 08/06/2021، حيث صرح قائلا: "إن بعض الأطراف كانت تتآمر على الدول العربية على غرار سوريا، لقد قالت في يوم ما (سنعود إلى الجزائر بعدما ننتهي من سوريا)، أنا أقول لهذه الأطراف لحمنا مرّ ولا يؤكل". فإلى أي مدى ستصمد الجزائر أمام محاولات التدخل الأمريكي وحكامها يسايرون بريطانيا ويديرون ظهورهم للمشروع الحضاري الإسلامي؟
اليوم، نرى أن الصراع الدولي على شمال أفريقيا بشكل عام وعلى الجزائر خاصة قد بلغ أشده، حيث تتالت زيارات الوفود العسكرية الأمريكية إلى شمال أفريقيا ومنها زيارة قائد الأفريكوم ستيفان تاونسند ولقاؤه بالرئيس الجزائري يوم 27/09/2021. ثم مثلت قضية الصحراء الغربية نقطة تحول في طبيعة التعامل مع الجزائر التي تعددت جبهات صراعها وأشكال أزماتها الدبلوماسية، وذلك بعد أن افتعلت أمريكا الأزمة مع المغرب تحت غطاء "حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره" ودفعت نحو منحه (أي الشعب الصحراوي) حكما ذاتيا، ثم راحت تساوم الجزائر وتبتزها بقرار مجلس الأمن وبمبعوثها الأممي دي مستورا الذي كان بالأمس القريب يرعى مفاوضات جنيف المتاجرة بدماء الأبرياء في بلاد الشام.
حيال ذلك، لم تستطع وزارة الخارجية الجزائرية غير التأسف إزاء القرار رقم 2602 الذي يجدد بموجبه ولاية بعثة الأمم المتحدة لتنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية (مينورسو)، حيث جاء في بيان يتيم ما نصه "هذا القرار يفتقر بشدة إلى المسؤولية والتبصر جراء الضغوط المؤسفة الممارسة من قبل بعض الأعضاء المؤثرين في المجلس". (فرانس24 في 31/10/2021).
هذا التوجه الأمريكي العدائي، في التعامل مع الجزائر، التقفه الرئيس الفرنسي ماكرون، الحاقد على الإسلام والمسلمين، ما دفعه للتطاول بدوره على الجزائر، ليصرّح بكل غرور بأنه لا يوجد أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، بل جعل ذلك جزءاً من حملته الانتخابية ضد منافسيه في الانتخابات الرئاسية القادمة، ولكنه اضطر للتدارك والتراجع سريعا بعد ردود الفعل الجزائرية القوية.
ومع ذلك، فلا يبدو أن الضغوط الأمريكية والدولية على الجزائر ستتراجع، حيث تمادى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ليعلن مؤخرا إدراج الجزائر على قائمة "المراقبة الخاصة" للحكومات التي شاركت في "الانتهاكات الجسيمة للحرية الدينية أو تغاضت عنها"، في محاولة واضحة لإحراج النظام الجزائري عبر رفع لواء حقوق الإنسان. في المقابل، انخرطت الجارة المغربية في توقيع مذكرة تفاهم دفاعية مع كيان يهود عدو الأمّة الأول، بحضور وزير إجرام كيان يهود، ما جعل وزير خارجية هذا الكيان الغاشم، يائير لابيد، يغتنم الفرصة ليصعد اللهجة ضد الجزائر بالقول "نحن نتشارك مع المغرب القلق بشأن دور دولة الجزائر في المنطقة، التي باتت أكثر قربا من إيران وهي تقوم حاليا بشن حملة ضد قبول (إسرائيل) في الاتحاد الأفريقي بصفة مراقب". وقد تزامنت هذه الاتفاقية العسكرية المقلقة للجزائر مع زيارة وفد للناتو إلى تونس، احتضنتها سفارة تركيا، لتفعيل شراكة تونس مع حلف شمال الأطلسي، في وقت لا يدرك فيها الساسة وأشباه الحكام إلى أي مسار تسير المنطقة بهكذا اتفاقيات.
إنه لا سبيل لصد مكائد الاستعمار الشيطانية وعلى رأسها مخططات أمريكا للمنطقة، إلا عبر التمسك بحبل الله المتين، والعمل على توحيد المسلمين، والالتفاف حول قيادة رشيدة تعيد السنا والرفعة لهذه الأمة وهذا الدّين. وإن أحفاد عقبة بن نافع وطارق بن زياد في شمال أفريقيا، لقادرون بإذن الله وعونه والتمسك بحبله، على إعادة صياغة تاريخ مشرق للأمة الإسلامية، بقلع هذه الأنظمة الخاضعة للغرب وإقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، فتعود الفتوحات إلى أوروبا الصليبية، وتعود فرنسا الحاقدة على الإسلام والناهبة لخيرات أفريقيا إلى حجمها الطبيعي، وتعود أمريكا إلى دفع الجزية عند مرور أسطولها من ولاية الجزائر، ويُنزع كيان يهود الغاصب لأرض الإسراء والمعراج من جسد الأمة الطاهر، تحقيقا لوعد الله سبحانه. قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً﴾.
رأيك في الموضوع