لا يمكن لمن يهتم بجدية في بحث قضية فلسطين لفهمها والوصول إلى حل جذري لها، حل عادل يعيد الحق لأهله أن يتجاوز التاريخ، والمسار المظلم الذي مرت به القضية منذ نشوئها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من التقزيم والتشويه حتى باتت بقايا قصة مبعثرة تتلاعب بها المصالح والخيانة!
في عام 1907 وفي مؤتمر جمع الدول الاستعمارية الغربية، قررت تلك الدول خطة شيطانية تستهدف الأمة الإسلامية، وذلك من خلال تدمير كيانهم السياسي دولة الخلافة العثمانية، وذلك عبر خطوات عدة كان أبرزها إسقاط الخلافة العثمانية، وتقسيم بلاد المسلمين إلى كيانات ضعيفة هزيلة تكون مرتبطة في وجودها ومصيرها بالغرب، ولتكريس ذلك التقسيم وديمومة الفرقة والشرذمة، تقرر زرع كيان يهود في قلب البلاد الإسلامية، فكانت الأرض المباركة فلسطين عنوان هذا الاستهداف بما تمثله من الناحية الجيوسياسية، والرمزية الدينية بحسب معتقدات يهود المزعومة.
خطة التقسيم تمثلت في اتفاقية توزيع النفوذ الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا المعروفة باتفاقية سايكس بيكو، أما زرع يهود في فلسطين فكانت أولى خطواته التمهيدية بإعطاء بريطانيا سنة 1917 والتي كانت محتلة لفلسطين آنذاك وصاحبة النفوذ فيها، عبر وزير خارجيتها بلفور وعداً لليهود بإقامة كيان لهم يجمعهم وينهي شتاتهم في فلسطين سمي بعد ذلك بوعد بلفور، وبالنظر إلى هذا الوعد من الناحية التاريخية نجد أن قضية فلسطين في نشوئها ليست مرتبطة بقيام كيان يهود سنة 1948 لتصل إلى سنة 1907 أي ما يزيد عن مائة سنة.
كما بينا سابقاً فإن القوى الاستعمارية الغربية استهدفت في مخططها الأمة الإسلامية، وقد جاء استهداف الأرض المباركة فلسطين كجزء من هذا المخطط تجاه الأمة الإسلامية، فلم يكن بإمكان الدول الاستعمارية الغربية التصرف بفلسطين كما تشاء وتعطي وعودا لمن تشاء لولا هدم الدولة الإسلامية، ولا أدل على ذلك من موقف الدولة الإسلامية الذي عبر عنه السلطان عبد الحميد بقوله "لأن يعمل المبضع في بدني أهون علي من أن أرى فلسطين تبتر من بلاد المسلمين، إذا سقطت دولة الخلافة يوما تستطيعون أن تأخذوا فلسطين بلا ثمن"، وهي نقطة مهمة لتحديد هوية القضية وحدود العلاقة معها، فالنظرة الصحيحة لقضية فلسطين على أنها قضية إسلامية، ووضعها في أي إطار آخر هو تقزيم وتصفية لها.
وإذا نظرنا إلى الأطراف المشاركة في مخطط الشر الذي استهدف وجود الأمة وهويتها ومكانتها، نجد أن بريطانيا كانت على رأس أولئك الأشرار، فقد تقصدت ارتكاب الجريمة، فخططت ونفذت، وجندت الأدوات وكل الإمكانيات لتحقيق ذلك المخطط الاستعماري الإجرامي، ولم يكن الأمر مجرد خطأ أو سوء تقدير، وهو أمر يوضح سذاجة وعبثية تلك الدعوات التي يحاول أصحابها إقناع بريطانيا بالتكفير عن جريمتها، بتقديم الاعتذار إلى أهل فلسطين، ومساعدتهم لاسترداد حقهم وتقديم المساندة لهم في المحافل الدولية المختلفة، هذا إن أحسنا الظن في أصحاب تلك الدعوات، فالبعض منهم في دعواته تلك يمثل جزءاً من المخطط، ويلعب دور الخيانة والتآمر على القضية.
أما السذاجة والغباء في طرح أولئك، فإن من قتل حارس البيارة وصاحبها لا يمكن أن يعيد البرتقال، ومن هدم دولة الإسلام لا يرتجى منه بناء دولة فلسطينية كما يمنّيهم الغرب ويعدهم وما يعدهم إلا غروراً، وأما الخيانة والتآمر فتلك سردية طويلة تحكيها ممارسات الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين بما فيهم منظمة التحرير التي أريد لها أن تمثل أهل فلسطين لتقوم بالدور الأبشع والأفظع في مسلسل الخيانة والتصفية لقضية فلسطين.
في 15/11/1988 في تونس، وأمام المجلس الوطني وقف ياسر عرفات، ليعلن بيان الاستقلال المزيف، ويعلن قيام دولة فلسطين على خُمس فلسطين التاريخية (20%) المتمثلة بحدود 1967، والحقيقة أن هذا الإعلان لم يكن تمكينا لإقامة دولتهم الفلسطينية العتيدة بقدر إضفاء الشرعية على كيان يهود وتكريس احتلاله، وحقه في الوجود على 80% من فلسطين، ولم يكن ذلك الإعلان إلا غشاوة على عيون بهدف التضليل والإلهاء، والواقع المعاش اليوم على أرض فلسطين أكبر دليل، فأين معالم الاستقلال والدولة في واقع أهل فلسطين بعد أكثر من ثلاثين عاماً من إعلانه تخللتها مفاوضات عبثية مع كيان يهود أسفرت عن تغول أكبر ليهود، ومزيدٍ من تهويد القدس، والتوسع في بناء مستوطنات تلتهم أراضي الضفة الغربية كالسرطان، والتي من المفترض أنها أراضي الدولة الفلسطينية الموهومة؟!
من الواضح إذن أن إعلان الاستقلال، والقبول بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 لم يكن قراراً وطنياً خالصاً كما روجت له منظمة التحرير والفصائل المنضوية تحتها، وإنما كان خضوعاً للإملاءات الأمريكية بتبني مشروعها لتصفية قضية فلسطين والإجهاز عليها والمعروف بحل الدولتين.
أما المراهنة على المؤسسات الدولية والأمم المتحدة فهي أشبه بالجري خلف السراب، وهي مراهنة خاسرة بالمطلق، فهي أداة بيد الدول الاستعمارية للهيمنة على العالم وفرض نفوذهم بحجة الشرعية الدولية، فقراراتها لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، ولا اعتبار لها في نظر يهود، ولم يكن تمزيق سفير يهود لدى الأمم المتحدة جلعاد أردان تقرير مجلس حقوق الإنسان المتعلق بحقوق الإنسان وإدانة كيان يهود لارتكابه جرائم وفظائع بحق أهل فلسطين وخاصة في الحرب الأخيرة على قطاع غزة الشهر الماضي من على منصة الأمم المتحدة وأمام الشاشات، لم يكن إلا شاهداً حياً على هوان تلك المؤسسات في نظر كيان يهود ومن خلفه من الدول الاستعمارية.
وأما اهتمام تلك المؤسسات باللاجئين وإغاثتهم وتشغيلهم فتلك ألهيات لا تنطلي على واع صاحب بصيرة، فلم يكن ذلك الاهتمام إلا بهدف تضليل اللاجئين، وامتصاص غضبهم عبر سد حاجاتهم، وتشغيلهم وربما توطينهم فيما بعد بحسب ما كشفت عنه الكثير من الحلول المطروحة والمبادرات السياسية حسب الرؤية الغربية لتصفية القضية.
وإن النظرة الشرعية لفلسطين تحتم بحثها ومعالجتها كونها قضية إسلامية، وتوجب على المسلمين التحرك فوراً لاستنقاذها، وحين نقول على المسلمين فليس المطلوب بالضرورة تحرك ملياري مسلم، فكيان يهود أهون وأضعف من أن تقف له الأمة فيصمد لمواجهتها، وإنما نقصد أي قوة في بلاد المسلمين قادرة على التحرير ولو كان الجيش الأردني منفرداً فكيف إذا اجتمعت قوى الأمة.
وإن المشاهد المحسوس أن ما يجعل كيان يهود آمناً مطمئناً وسط هذا البحر من شعوب الأمة الإسلامية ليس سوى تلك الأنظمة القائمة في بلاد المسلمين، والتي تشكل أكبر عقبة في وجه التحرير، لذا من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، فقد وجب على المسلمين وخاصة المحيطين بفلسطين إسقاط تلك الأنظمة والتحرر منها لفتح الطريق نحو تحرير فلسطين عملاً بنداء المخلصين "أسقطوا العروش وحركوا الجيوش".
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع