غالباً بعد الإطاحة بالحاكم الظالم ومغتصب السلطة - بالاستعانة بقوى الشرّ - تستمر الفوضى زمناً قد يطول، وتظهر على السطح بقايا النظام البائد، من الذين كانوا طوع أمره في الهيمنة والإفساد الذي يفرضه على مجموع الناس، وهذه في الحالة الليبية ظاهرة للعيان وهي في ليبيا تكاد تكون الأبرز، فمنظومة النظام السابق تمكنت من الوصول إلى أغلب مفاصل الدولة بل تمكنت من الدخول إلى الحكومة. فمعلوم أن وزيرة العدل كانت في اللجان الثورية (جهاز القذافي لتصفية خصومه)، ووزير الاقتصاد في حكومة الوحدة الوطنية هو أيضاً كان وزيراً عند القذافي، وبعض عناصر النظام السابق متحالفون مع حفتر، فوزيرة الخارجية من مؤيدي حفتر وهي على علاقة جيدة مع رموز النظام السابق وخصوصاً الذين يستحوذون على الأموال المنهوبة من المال العام أمثال أحمد قذاف الدم الموجود بالقاهرة والذي يحوز على 25 مليار دولار من المال العام المنهوب باعترافه هو سنة 2012 في لقاء مع علي الصلابي المرسل من طرف مصطفى عبد الجليل.
هذه المقدمة فقط ليدرك القارئ الواقع الراهن في البلاد.
وفي استعراض لبعض الأحداث الجارية:
- أصدر مجلس نواب طبرق في 04/10/2021 قانون انتخاب رئيس الدولة وانتخاب البرلمان دون الرجوع إلى المجلس الأعلى للدولة الذي تكون بفعل وثيقة الصخيرات والتي تلزم البرلمان بالرجوع إلى المجلس الأعلى للتشاور معه في عملية إصدار القوانين المتعلقة بالانتخابات.
- بتاريخ أول الشهر أقدم مجلس نواب طبرق يرأسه عقيلة صالح على إصدار قرار سحب الثقة من حكومة الدبيبة مستعملاً التزوير في عملية تصويت مزورة بشكل فاضح من حيث النصاب وعدد المقترعين.
- أصدرت أحزاب ليبية وعلى رأسها حزب العدالة والبناء، وحزب الجبهة الوطنية للإنقاذ وحزب التغيير، بيانات تندد فيها بقرارات برلمان طبرق.
- المحطات والقنوات التلفزيونية المحسوبة على القوى الموحدة في غرب البلاد كلها تركز باستمرار على جرائم حفتر التي اقترفها جيشه والمليشيات التابعة له خلال هذه السنوات الست العجاف التي مارسوا فيها القتل للمدنيين والتمثيل بالجثث ودفن الناس أحياء، وتهديم وحرق الممتلكات.
- في هذا الجو السياسي المنسد الأفق، خرج عبد الحميد دبيبة رئيس الوزراء معلناً خوضه غمار الصراع ضد حفتر وعقيلة صالح، فبدأ يلعب على وتر جراحات الناس مستغلا معاناتهم ومآسيهم خدمة لأجندة أسياده، حيث أخذ يستميل قطاع الشباب بإقراره (منحة) مالية لكل شاب وفتاة أقدما على الزواج الآن بأن خصص لهما مبلغ 40 ألف دينار، فأصبح يشكل آمال الكثيرين في مواجهة حفتر وعصابته، وأفرج عن القرار المتخذ منذ سنوات لإنصاف المتقاعدين لفئة 450 ديناراً فأصبحت 900 دينار، وأقر زيادة للمعلمين، وبذلك أصبحت شعبيته تتقدم على كل من سواه.
- فدبيبة أعلن الحرب الكلامية على حفتر وعقيلة صالح وتكلم عن حفتر بالوصف وليس بالاسم فقال "كيف نصالح من قتل المدنيين ودفن الناس أحياء وجلب السلاح من كل الدول لقتل الشعب الليبي، كيف نصالحه ونتصالح معه؟". وقال: "لا يمكن لنا القبول بالعميل والقاتل في مواقع القيادة ولا يمكن التعاون معه" فكان يقصد حفتر بكل وضوح.
- لقد نجح الدبيبة في استمالة قطاعات كبيرة من شباب البلاد وأسرها بقراراته المالية، وبإمضائه على الكثير من المشاريع المقررة سابقاً والمتوقفة والمجمدة في أدراج الوزارات السابقة ولم ينفذ منها شيئا، وحله مشكلة الكهرباء والتي تبين أنها كانت مفتعلة في البلاد لزيادة الضغط على الناس وتيئيس الشعب من إمكانية الحلول، والتي كانت تمارسها الدولة العميقة في أجهزة الدولة والوزارات.
هذا من حيث الوضع الداخلي، الذي بات أخطر من ذي قبل؛ ذلك أن الدبيبة لم يقدم على هذه التسهيلات والمنح والإنجازات وهو يبتغي من ذلك مصلحة أهل ليبيا، بل ليكسب قلوبهم ويشتري أصواتهم ليفوز في الانتخابات، ثم يمضي في تمرير سياسات الغرب الكافر المستعمر في بسط السيطرة على ليبيا ونهب ثرواتها ومقدراتها، أي أن إجراءاته هذه هي ضمن سلسلة الصراع الدولي على ليبيا.
أما المسار الدولي للقضية الليبية بعد طرد فرنسا ولم تبق لها قوة التأثير السابقة، فقد بدأت أمريكا تدعم إجراء الانتخابات، فالسفير الأمريكي في أغلب تصريحاته يصرّ على إجراء الانتخابات في وقتها في 24 كانون الأول/ديسمبر القادم. "وأمريكا تعرب عن أملها في أن تتوصل اللجنة 5+5 العسكرية المشتركة في إحراز تقدم في المسائل العسكرية والأمنية المتعلقة بالملف الليبي" (صحيفة أوبزيرفر الإكترونية).
الجامعة العربية رغم انعدام تأثيرها في المشهد الليبي ولكنها من باب فهم السياق العام في المشهد فهي ترحب بنتائج الاجتماع المشترك للجنة 5+5 العسكرية والذي "أقرت فيه خطة لسحب جميع المرتزقة والمقاتلين الأجانب من ليبيا بشكل تدريجي متوازن".
تركيا على لسان رئيس البرلمان التركي مصطفى شنطو: "نؤكد على دعم إجراء الانتخابات بليبيا في موعدها المقرر في 24 كانون الأول/ديسمبر المقبل".
دبيبة يصل قطر الأربعاء لإجراء مباحثات تتعلق بالشأن الليبي داعياً قطر للاشتراك في المؤتمر الذي سيعقد نهاية الشهر الجاري تحت عنوان "استقرار ليبيا".
مجلس نواب طبرق يصدر قراراً يعدل فيه تاريخ الانتخابات فيقرر أن تكون الانتخابات الرئاسية في 24 كانون الأول/ديسمبر والانتخابات البرلمانية بعدها بشهر.
وكل ذلك من أجل حفتر حتى إذا فاز يمكنه اللعب في الانتخابات البرلمانية بعدها وإذا لم يفز يرجع لقيادة عصابات جيشه.
حذر وزير خارجية إيطاليا بعد لقائه مع وزير خارجية أمريكا ما وصفه بالخطر الكبير إذا ما فشلت الانتخابات في ليبيا.
من خلال ما تم عرضه أعلاه من وقائع يتبين لنا أن أمريكا تدفع في إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية. ولا شك أنها تريد أن يتمكن عملاؤها من الإمساك بالسلطة، فإذا تم ذلك لها كان به وإلاّ فإن عنصر التفجير حفتر بالإمكان تحريكه من جديد.
ويبدو أمريكا استمالت عبد الحميد دبيبة خصوصاً وقد ذهب إلى مصر وأجرى محادثات مع السيسي ووقع على بروتوكولات واتفاقيات اقتصادية تسمح للمصريين أن ينفذوا مشاريع كثيرة في ليبيا، وذهب إلى تركيا أيضاً وتحادث مع الأتراك في شأن المشاريع التي كانوا ينفذونها قبل 2011 وبدأت الشركات التركية في الرجوع إلى الساحة الليبية.
وبهذا النشاط المستمر لعبد الحميد دبيبة ضمن دعمه إقليمياً ودولياً فهو الأقرب إلى الفوز في الانتخابات في حالة إجرائها. كل هذا واضح ولكن الأمر الخطير الذي بدأ في تسهيله فتح المجال أمام العامة للاستدانة من البنوك قروضاً بالربا تحت ذريعة تشجيع الصناعات والمشاريع الخاصة في البلاد اعتماداً على الاقتراض من البنوك والمصارف الأهلية بالربا، بهذا يدخل الناس في حرب مع الله ورسوله والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ فالربا باب من أبواب المعاصي عظيم.
والخلاصة أنه لا حل لمشكلة ليبيا مثلها مثل باقي بلاد المسلمين إلا بانتزاعها من بين أنياب الغرب الكافر المستعمر، وإخضاعها لحكم الله عز وجل في ظل دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة؛ فهي التي ترعى شئون الناس ابتغاء مرضاة الله تبارك وتعالى، وليس من أجل استدراجهم لتحقيق مصالح الغرب الكافر المستعمر.
نسأل الله أن يعجل لنا بقيام دولة الحق.
رأيك في الموضوع