لا يخفى واقع الرعاية الصحية الفاسد في الأردن على أحد رغم الهالة الإعلامية حول التقدم العلمي والإنجازات الطبية التي جعلت الأردن وجهة لاستقطاب المرضى للعلاج، فهل يعتبر من الإنجاز الطبي في الرعاية الصحية التفاخر بإجراء أول عملية زراعة قلب في الدول العربية عام 1985 بينما كانت نسبة الوفيات الرضع 39 طفلاً لكل ألف ولادة في ذلك الوقت؟! وهل يعني شيئاً لآلاف المرضى في الأردن الذي تموت فيه طفلتان، رحمهما الله، من أبسط الأمراض الميسور علاجها رعاية صحية مسؤولة؟
إن منظومة الرعاية الصحية في الأردن والبلاد الإسلامية، حتماً لا تقوم على رعاية شؤون الناس، بل إن الأنظمة الحاكمة فيها لا تلقي بالاً لحياة رعيتها منذ أن تولوا الحكم في بلدانهم بتنصيب من المستعمر الغربي الكافر، فهم مشغولون بالاهتمام بالاستجابة لإملاءاته، وهم يستندون في بقائهم إلى رضاه عنهم.
إن الرعاية الصحية في الأردن لا تقوم على نظام ولا حتى على رعاية، فهناك واحات متناثرة من الإدارات والمنظومات التي أسست لتقوم بمهمات طبية صحية متجزئة، أوكلت وفُصّلت لفائدة تطلعات وارتجالات رجال النظام في الدولة، وتزيين إنجازات النظام بالإنجازات الطبية الفردية، مع بقاء جل الرعية دون مرافق صحية، ومعاناة مع الألم والحرمان، ومن هذه الإدارات وزارة الصحة ومستشفياتها الحكومية والخدمات الطبية الملكية، والجامعات الحكومية ومستشفياتها، والقطاع الخاص ومستشفياته باهظة التكاليف، ومؤسسات صحية أخرى مستقلة، مثل مركز الحسين للسرطان، والمركز الوطني للسكري، ومؤسسة الغذاء والدواء، وغيرها من المؤسسات الدولية الصحية، وكلٌّ مستقلٌّ برأيه وإنجازاته، بل إن التنسيق فيما بينها تعقد له اتفاقيات ثنائية وكأننا في دول عدة وليس دولة واحدة، فتتبعثر الجهود، وتتعدد النفقات، وتناكف بعضها بعضاً في تحقيق الأبحاث والإنجازات، بل وتتباغض فيما بينها بالرواتب والحوافز والتقاعد، ويصل التباين فيما بينها وبين القطاع الخاص من هذه الناحية إلى أكثر من 500% - 700% وأكثر، بل إن التباين في مؤسسات القطاع العام الحكومي والعسكري والجامعي، في كافة مزاياه يصل إلى حوالي 300%، فتخلو أكثر مؤسسات الرعاية الصحية الحكومية العامة من الكفايات الطبية والأعداد الكافية للكوادر، والتجهيزات الضرورية.
في خضم هذه العشوائية والعبثية يضيع الرعايا الذين لا يملكون ثمن علاجهم الباهظ في القطاع الخاص، أو إغلاق الأبواب دونهم في القطاعات الأخرى؛ لأنهم لا يملكون التأمين الصحي اللازم للمؤسسات العامة الأخرى، وهي بمثابة قطاع خاص من هذه الناحية، مع أنها تُموَّل من دافعي الضرائب، ولا يبقى أمام أعداد السكان المتزايدة وأعداد الفقراء المتعاظمة والبطالة التي وصلت إلى 50% جراء الوضع الاقتصادي المتهالك وامتثاله لإملاءات صندوق النقد الدولي المستعمر التي تحد من دعم المرافق العامة، إلا المستشفيات الحكومية التي لا تكفي لهذه المهمات لا في تمويلها ولا في كوادرها.
فالقطاع العام الحكومي لا يمكن إصلاحه ما دامت النظرة للرعاية الصحية اقتصادية نفعية وما دامت الغالبية العظمى من الرعية ليست محل اهتمام الراعي، فالمشكلة لم تكن خللاً في المصاعد، ولا توفير الأدوية والعلاجات فحسب مع الازدحام وصعوبة الوصول والحصول على الخدمة الصحية، ولا بسبب كورونا فهي سابقة له وإنما كشفت هشاشته، بل في فساد الأسس التي قامت عليها الرعاية الصحية في النظرة إلى الرعية، أي النظرة الرأسمالية، والامتثال لسطوتها، من مثل التأمين الصحي، وارتفاع أسعار الدواء، وحقوق الملكية الفكرية وبراءة الاختراع، وحصر البحث العلمي في العلاجات الدوائية والإجرائية التي تحقق أكبر منفعة مادية، وسارت على غرارها الدولة والكوادر الطبية تبعاً.
لقد أوجب الإسلام على الإمام رعاية شؤون رعيته، فقال ﷺ: «فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، وضمن الإسلام لكل فرد من أفراد الرعية حاجاته الأساسية الفردية دون تفريق بينهم وهي: المأكل والمسكن والملبس، وحاجاته الأساسية الجماعية وهي: الأمن، والتعليم، والتطبيب.
والرعاية الصحية والتطبيب من المصالح والمرافق التي لا يستغني عنها الناس، فهو من الضروريات، قال ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافىً فِي جَسَدِهِ، آمِناً فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»، فقد جعل الرسول ﷺ الصحة حاجة، على أن عدم توفير الطب لمجموعة الناس يؤدي إلى الضرر، وإزالة الضرر واجبة على الدولة، قال ﷺ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»، فمن هذه الناحية أيضاً كان التطبيب واجباً على الدولة.
والرعايةُ الصحيةُ هيَ القيامُ على صحةِ الرعية بمراقَبَتِها وحِفْظِها وتَدبيرِ شُؤُونِها بما منْ شَأْنِهِ أنْ يوصِلَ إلى العافيةِ الجسديةِ والسَّلامةِ النفسيةِ. وهيَ تشملُ الوقايةَ منَ الأمراضِ قَبْلَ أنْ تَقَعَ، ومتابعتَها وعلاجَها إنْ وَقَعَتْ، سواء على صعيدِ الفردِ أوِ المجتمعِ.
فالإسلام أوجب على من يتولى أمور الناس أن يعيش معهم وبينهم يطلع على حاجاتهم، ويقضيها باليسر والسهولة والبساطة والسرعة، ويعيّن الأكْفاء من القادرين على الأعمال. لقد جاءت نصوص الشرع تأمر بالإحسان في كل شيء، وجاءت تأمر بالتيسير، وتنهى عن التعسير، وتنهى عن الإقراد أي تأخير قضاء حاجات الناس، فلا هم يقضونها ولا هم ينصرفون إلى بيوتهم وأعمالهم، وهذا بعامة، وقد خصّت النصوص الشرعية من يتولى أمور الناس أكثر من غيره، فقال رسول الله ﷺ: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً فَاحْـتَجَبَ دُونَ خِلَّتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ وَفَاقَتِهِمْ، احْـتَجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ دَونَ خِلَّتِهِ وَفَاقَتِهِ وَحَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ».
أما الأهداف العامة للرعاية الصحية، التي تسعى دولة الخلافة على منهاج النبوة القائمة قريباً بإذن الله، وضمن برنامج واضح مفصل المعالم يشمل كل جوانبه ويقوم على أحكام الإسلام في الحكم والإدارة، فهي:
- حفظ الصحة الجسدية والنفسية.
- حفظ الصحة العامة التي تتعلق بالجماعة ككل.
- شُمُولِيَّةُ الرِّعَايَةِ الصِّحية لِكُلِ الرَّعِيَّةِ.
- مَجانِيَّةُ الرِّعايَةِ الصِّحية لكل الناس، لأَنَّ الحفاظَ على الصحةِ حاجَةٌ أساسيَّةٌ لِكُلِّ الناسِ، غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِم، فيُنْظَرُ إلى المشكلةِ الصحيةِ بوصفها مشكلةً إنسانيةً، فيكونُ الهدفُ هوَ توفير الرعايةِ الصحيةِ للرعيَّةِ على أَحْسَنِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ، ولا يكونُ الهدفُ التوفيرَ على الدولةِ أو الاقتصادَ في المواردِ.
- التَّمَيُّزُ وَالتَّقَدُّمُ في عُلومِ الصحةِ فلا بُدَّ من إِيجادِ حَشْدٍ من الأطباءِ والعلماءِ والمخْتَصينَ المُؤَهَلينَ عِلْمِيّاً وفِعْلِيّاً لابتكارِ الأساليبِ والوسائلِ اللازمةِ للرعايةِ الصحيةِ، ولا بُدَّ مِنْ توفيرِ أَقْصى إمكانياتِ البحثِ والابتكارِ العِلْمِيِّ لهم. والهدفُ هو أنْ تمتلكَ الدولةُ الإسلامية زمامَ الأمورِ في مجالِ الرعايةِ الصحيةِ وتُحَقِّقَ الاكتفاءَ الذاتيَّ، حتى لا تَقَعَ تحت تأْثيرِ الدولِ الكافرة رجاءَ مصلحةٍ من المَصالحِ الصحيةِ، قالَ سبحانه وتعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾.
- الجهوزية والتأهب للتعامل مع الْكَوَارِثُ وَالْحَالاَتُ الاسْتِثْنَائِيَّةُ.
- وضع نظام إداري لتنفيذ سياسة الرعاية الصحية في الدولةِ الإسلاميةِ يقومُ على البساطةِ والإسراعِ في تقديمِ الخدمةِ الصحيةِ والعلاجِ، كما يقومُ على الكفايةِ فيمنْ يَتَوَلَّوْنَ الإدارَةَ.
فلا يوجد مبدأ في الدنيا أولى الرعاية الصحية اهتماماً كالمبدأ الإسلامي، فجعل الصحة والتطبيب من الحاجات الأساسية التي يجب على الدولة الإسلامية أن توفرهما لرعاياها وبالمجان، فإنهما من الواجبات على الدولة حيث إن العيادات والمستشفيات وصناعات الأدوية ومقتضيات الصحة العامة مرافق يرتفق بها المسلمون وغيرهم من رعايا الدولة الإسلامية، في الاستشفاء والتداوي، فصار الطب من المصالح والمرافق التي يجب على الدولة أن تقوم به لأنه مما يجب عليها.
وإننا في حزب التحرير نعمل مع الأمة وفيها من أجل التغيير الجذري للواقع الفاسد باستئناف الحياة الإسلامية وإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة، التي لا يمكن أن تتحقق رعاية شؤون الناس عامة والرعاية الصحية خاصة إلا بوجودها وتنفيذ أحكام الإسلام المتعلقة بها.
بقلم: الدكتور أحمد حسونة
رأيك في الموضوع