كان للمكر الذي أتته القوى الاستعمارية وبتنفيذ من أدواتها في الداخل، ضد الثورة في تونس، وللفشل التام الذي حصدته كل الأطراف السياسية، التي شاركت في عشرية الحكم والحكومات التي تمثلها في سياسة الشأن العام، كان لها الدور الأكبر في تسلل أستاذ القانون الدستوري، المجهول سياسيّا، إلى صدارة المشهد السياسي في تونس، وهو الذي لم يخفِ يوما معارضته للنظام السياسي (التمثيل النيابي)، حتى إنه تعهد، أثناء حملته الانتخابية، بألا تجري انتخابات نيابية لاحقا في حال فوزه في الانتخابات، والاستعاضة عنها بالديمقراطية التمثيلية عن طريق المجالس المحلية والجهوية والمركزية.
إلا أنه وهو الفاقد للسند السياسي في الداخل ولإيمانه كسائر السياسيين والمثقفين المضبوعين بالأفكار السياسية الغربية، بحتمية الاستناد إلى قوة خارجية، ارتمى في أحضان فرنسا التي لا يرى في احتلالها لتونس إلا حماية، فأسندته في صراعه ضد عملاء بريطانيا في البرلمان والحكومة، ظل منذ تسلمه رئاسة البلاد رسمياً في 23 تشرين الأول/أكتوبر 2019 يتعامل سلبا مع رئيسي البرلمان والحكومة، حتى كان يوم 25 تموز/يوليو، وقد بات الاحتقان السياسي والتحفز الشعبي، ينذران بانفجار خطير جدا، حُمّلت فيه حركة النهضة تبعة الأوضاع المتردية بوصفها أكبر الجماعات تمثيلا في البرلمان.
فاتخذ الرئيس جملة من التدابير التي وصفها بـ"الاستثنائية"، خلال ترؤسه اجتماعا طارئا للقيادات العسكرية والأمنية، جمد بموجبها لمدة 30 يوما عمل السلطة التشريعية، وأقال رئيس الحكومة وتولى السلطة التنفيذية، حسب قراءته الذاتية للفصل 80 من الدستور. ظلت خطاباته طوال الشهر الذي أعلن فيه تفرده بالسلطة تحوم حول: الفساد، والنّظام السّياسي، والقانون الانتخابي، مغازلا مشاعر جمهور الناس التواق إلى التغيير الحقيقي. ليعلن في نهاية الشهر تمديد التدابير الاستثنائية، حتى إشعار آخر، وهو الأمر الذي نددت به أغلبية الأحزاب، معتبرة ما قام به سعيّد خرقا جسيما للدستور وعملا من أعمال تحييد الخصوم السياسيين، في حين طالبت أخرى، باحثة لها عن موقع في هذا المشهد الجديد، بضرورة عرض خارطة طريق للمرحلة القادمة.
هذا الوضع المهتز في البلاد وحالة الارتباك التي عمقها قيس سعيد، أوجدت مناخا ملائما لمزيد التدخل الأجنبي. فبينما ظلت بريطانيا تناور عن طريق حركة النهضة وحلفائها تاركة للزمن أن يكشف قدرات سعيد وعجزه عن الاستجابة لتطلعات الناس، فإن أمريكا تعمل جاهدة على احتلال موقع في المنطقة عن طريق الضغوط الاقتصادية ومنظمات المجتمع المدني، مؤكدة على ضرورة الإسراع بتعيين حكومة، وإعادة الحياة البرلمانية، والانطلاق في حوار شامل. أما فرنسا وهي التي لا تملك وسطا سياسيا فاعلا في تونس فإن قيس سعيد هو الذي أعادها للساحة التونسية بارتمائه في أحضانها طلبا لدعمها واستنصارا بقوتها، وهو يعلم يقينا أن الديمقراطية لا تُمكن إلا للأقوياء، فبحث عن القوة عند فرنسا.
ظل قيس سعيد منذ إعلانه عن إجراءاته الاستثنائية يناور بجملة من الأعمال الاستعراضية التي تدغدغ مشاعر الناس كزياراته لبعض مخازن السلع بزعم محاربة الاحتكار، أو إيقاف بعض صغار الفاسدين لإثبات وقوفه في صف الشعب "للحفاظ على وحدة الدولة وحمايتها من الفساد الذي نخر مفاصلها"، وظل ينأى بنفسه عن تنفيذ وعوده بتعيين رئيس حكومة جديد يكون مسئولا أمام رئيس الدولة، وأنه هو الذي سيعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، وهو الأمر الذي سيضعه تحت طائلة المحاسبة الشعبية، ولرفض بعض الشخصيات تولي المنصب، كما رجحت بعض وسائل الإعلام المحلية، مع الخشية من إلجائه إلى إعادة الحياة البرلمانية، سلاح خصومه السياسيين.
يجد قيس سعيد نفسه اليوم في مأزق أمام الرأي العام، وهو المتفرد بالقرار، بين حلمه بتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، وتعديل القانون الانتخابي، وتعديل الدستور أو تغييره، مما يهيئ له التفرد بالسلطة، وليس له القوة على ذلك لاستناده إلى داعم واهٍ، أي فرنسا، وبين معارضة داخلية متربصة وضغوط خارجية تدعوه إلى العودة بسرعة إلى النظام الدستوري، واحترام "المبادئ الديمقراطية"، وإعادة الاستقرار للمؤسسات، وإلى استئناف النشاط البرلماني، مما سيضطره على الأغلب إلى أن يلجأ بصورة ما إلى شكل من أشكال الحوار مع خصمه الرئيسي رئيس البرلمان، الذي لم يوفر فرصة إلا وعرَّض به، وغمز من قناته، كما فعل أمام المؤسسة العسكرية عند توديعه لمفرزة من جنودنا وضباطنا وهي تتحول إلى جمهورية أفريقيا الوسطى خدمة لأهداف الأمم المتحدة.
تأتي تحركات قيس سعيد وصراعه مع خصومه في ظل احتقان شعبي وثورة لم تنكفئ في أهل تونس، فلا هم استسلموا لطرف سياسي، ولا هم أقروا له بما يفعل، ولم يستقر للأجانب نفوذهم في بلادنا، لاهتزاز سلطة عملائهم، بل استمر الناس يعبرون عن رفضهم لكل ما يأتيه هؤلاء الحكام، وصاروا يعيّرونهم بخياناتهم، بالاحتجاجات والاعتصامات وغيرها من أساليب التعبير عن الغضب، فكانت قفزة سعيد ومن وراءه من قوى غربية استعمارية، استباقا لغضب بدأ يتعاظم في الناس، فقام "ثائرا" بدلا منهم، يحتج ويهاجم الحكومة والبرلمان، ويندد بالفساد واللوبيات، حتى ليخيل لسامعه أنه معارض ثائر لا رئيس دولة بين أيديه كل الصلاحيات، في اتجاه احتواء إرادة التغيير لديهم، وحرفها عن السير نحو التحرر الحقيقي!
تأتي تحركاته هذه، وهو المهووس بالفكر السياسي الغربي، كسائر الوسط السياسي في تونس، ولا يرى الحياة وإدارتها إلا من خلال التفكير الغربي القائم على فكرة فصل الدين عن الحياة، أي علمانيّة تفصل الإسلام عن حياة المسلمين. وهو لا يرى كذلك ضيرا في التدخل الأجنبي في شؤون أهل الإسلام، معتبرا ذلك من العلاقات الدولية، تأتي تحركاته تلك، استباقا لوعي تنامى في الناس وقد صارت منتدياتهم وأحاديثهم ومواقفهم تطرح القضايا الحقيقية وترى الحلول في وجهة نظرهم المنبثقة عن عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وبدأت تتجلى أمامهم حقيقة أن من يتصدرون المشهد السياسي يقودونهم إلى علمانيّة تفصل الإسلام عن حياة المسلمين في تونس وديمقراطية تمكن للقوي فقط من الوصول إلى مراكز القرار واستمرار لتحكم القوى الاستعمارية في بلادنا.
* رئيس المكتب السياسي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع