بدأ نموذج جديد يتصدّر المشهد السياسي في عديد من الدول الأفريقية يحتدم فيه الصراع بين فرنسا وروسيا على العديد من المستعمرات الفرنسية السابقة التي استمرت فرنسا بالاستحواذ عليها بعد منحها الاستقلال الشكلي مع بدايات ستينات القرن العشرين واستمرّت في نهب خيراتها والتحكم بنظام الحكم فيها من جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والتعليمية.
فدولة أفريقيا الوسطى التي استقلت عن فرنسا عام 1969 لم تسلم بعد استقلالها من استمرار تشبث الاستعمار الفرنسي بإدارة مُقدّراتها حتى العام 2013 حيث تمكّن في هذا العام ثوار من المسلمين عُرفوا بتحالف السيليكا من الإطاحة بالرئيس فرانسوا بوزيريه عميل فرنسا الصليبي الحاقد على الإسلام والمسلمين.
لكنّ فرنسا تمكنت من إحباط ثورة السيليكا بواسطة دعم حشد أنصار بوزيريه بالسلاح وإنشاء منظمة أنتي بالاكا الإجرامية التي عُرفت بجماعة السواطير نسبةً إلى قيامها بقتل المسلمين العزل بالسواطير بتحريض من فرنسا.
ثمّ تمكنّت فرنسا بعد ذلك من نزع سلاح السيليكا وإسقاط الرئيس التابع لها وإعادة الحكم إلى جماعة بوزيريه مرة أخرى، وتسبّب ذلك في وقوع البلاد بفوضى عارمة أدّت إلى جعل البلاد في حالة عدم استقرار.
وبسبب ذلك الوضع المضطرب أجبرت فرنسا وتحت الضغط الدولي والأمريكي على القبول بتولي كاترين سامبا كرئيسة مؤقتة للبلاد عام 2014 والتي قامت بالإشراف على إجراء انتخابات (حرة) تحت إشراف دولي أمريكي فاز بها رئيس وزرائها آنذاك فوستان أركانج تواديرا الذي تولى الرئاسة منذ العام 2016 وحتى الآن.
في بداية حكمه عمل تواديرا على استرضاء فرنسا وعدم مُجاهرتها العداء، وفي الوقت نفسه إقناع المجتمع الدولي بأنّه رئيس توافقي لجميع الطوائف، وليس كسلفه فرانسوا بوزيريه الذي كان عنصريا طائفياً يُناصب المسلمين العداء لتمكين فرنسا من الاستمرار في فرض سيطرتها على البلاد من خلاله.
وبعد تمكنه من السلطة بدأ تواديرا يبتعد عن فرنسا تدريجياً وصار يتقوّى بالمجتمع الدولي (أمريكا) ويستعين بالاتحاد الأفريقي الذي لأمريكا ثقل كبير به، لكنّه مع ذلك لم يستطع بهما مُواجهة النفوذ الفرنسي المتجذر في البلاد، فلجأ في العام 2018 إلى روسيا التي أرسلت في البداية أربعة من جنرالاتها لحمايته من بطش فرنسا، كما أرسلت بعد ذلك 200 عنصر أمني ليعملوا ضمن حرس الرئيس، وتمّ تعيين فاليري زاخاروف كضابط مُخابرات روسي في منصب رئيس الحرس الرئاسي والمسؤول المباشر عن أمن الرئيس، وأصبحت روسيا هي المسؤولة عن توريد السلاح إلى أفريقيا الوسطى بشكلٍ حصري، ثمّ قامت روسيا أيضاً باستخدام مرتزقة الفاغنر في تعزيز السيطرة على العاصمة ومناطق مناجم الذهب واليورانيوم والبلاتين، وبذلك تمكنت روسيا من بسط سيطرتها على الحكومة وأصبح الرئيس تواديرا تابعاً لها تماماً.
لكنّ فرنسا لم تقف مكتوفة الأيدي فدعمت مليشيا الأنتي بالاكا التابعة لها ودعمت كل مجموعات المعارضة بالسلاح في محاولة منها لاستعادة السلطة وإسقاط تواديرا، لكنّ المرتزقة الروس سبقوا فرنسا وتمكنوا من السيطرة على العاصمة وعلى نصف البلاد بينما تمكنت المعارضة المدعومة من فرنسا من السيطرة على النصف الآخر.
وما زال الصراع في أفريقيا الوسطى محتدما بين الطرفين حتى الآن وهو ما أدّى إلى قتل عشرات الآلاف وتشريد ربع سكان البلاد البالغ تعدادهم أكثر من أربعة ملايين نسمة.
ووقف تحالف السيليكا من المسلمين يحارب الاحتلال الروسي ويدافع عن حرمات المسلمين التي انتهكت فرد الروس بارتكاب أشنع الجرائم ضد المسلمين في أفريقيا الوسطى بشكل خاص، ونشرت منظمات حقوق الإنسان تقارير عن جرائم الروس ضد المصلين في المساجد، لكن ذلك الإجرام لم يلق آذانا صاغية من الإعلام.
إنّ نجاح روسيا في السيطرة على العاصمة وعلى نصف البلاد ما كان ليتم لولا موافقة أمريكا التي دعمت الرئيس تواديرا من قبل، والتي لم تجد أفضل من استخدام روسيا في استمرار تثبيته ودعمه وحمايته وطرد النفوذ الفرنسي من البلاد.
فأمريكا إذاً باتت تُكرّر في أفريقيا الوسطى النموذج الذي استخدمته في سوريا حيث تمكنت به من إقناع روسيا بالتدخل العسكري في سوريا لحماية عميلها بشار.
ففائض القوة التي تمتلكها روسيا أصبحت تستخدمه أمريكا في طرد النفوذ الأوروبي من القارة الأفريقية والتي عجزت بسياساتها الدبلوماسية والاقتصادية عن فعله.
وبعد نجاح النموذج الروسي هذا في أفريقيا الوسطى ها هي دول أفريقية عدة أخرى تسعى لتجريبه في وسط وجنوب وغرب أفريقيا مثل مالي وموزمبيق وغينيا وغينيا بيساو وليبيا والسودان ضد الاستعمارين القديمين الفرنسي والبريطاني في القارة الأفريقية بإيحاء أمريكي واضح.
رأيك في الموضوع