بتاريخ 17 أيار/مايو2021م، التأم مؤتمر دولي من أجل السودان، سُمي بمؤتمر باريس لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان، استمر المؤتمر ليومين، بحضور مجموعة واسعة من المسئولين السودانيين برئاسة البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي، وعبد الله حمدوك رئيس مجلس الوزراء، وبمشاركة السيسي حاكم مصر، إضافة إلى رئيس فرنسا ماكرون صاحب فكرة المشروع، ومسئولين أفارقة وعرب وأوروبيين، حيث ركزت الكلمات الرسمية التي ألقيت في المؤتمر على الجانب السياسي من العملية الانتقالية في السودان، والربط بين نجاحها مع استعداد الدول المانحة لمساعدة السودان اقتصادياً.
فما هي أهداف هذا المؤتمر المعلنة والخفية، وما هي النتائج التي خرج بها المؤتمر، والفائدة التي جناها، أو سيجنيها أهل السودان؟
إن من الأهداف المعلنة مساعدة السودان في إعفاء ديونه التي تزيد عن 60 مليار دولار، وفي هذا الصدد كانت النتائج مجرد وعود، سواء من فرنسا أو غيرها، فقد نقلت فرانس برس عن ماكرون قوله فيما يتصل بهذا الموضوع: "نحن نؤيد إلغاء كاملا لديون السودان المستحقة لدينا وتبلغ نحو 5 مليارات دولار". ولكن الإعلام وبخاصة في السودان صاغ الخبر كما لو أن باريس قد أزالت ديونها عن السودان، وفي هذا تضليل للرأي العام في السودان، وكذلك فقد تعهد 15 من القادة الأفارقة والأوروبيين والعرب والمنظمات الدولية بدعم الانتقال السياسي بالسودان، وتقديم القروض لتغطية متأخرات المدفوعات المستحقة للمانحين الدوليين، وهي كما نرى مجرد تعهدات هلامية مثلها مثل التعهدات السابقة التي وعدت بها في مؤتمرات سابقة سواء في برلين أو السعودية أو غيرهما، وحتى هذه التعهدات إن تمت فلن يستفيد منها السودان، لأنها ستذهب للدائنين؛ أي استبدال دائن بدائن آخر! وهذا ما فعلته أمريكا سابقاً مع البنك الدولي، حيث قامت بدفع قرض تجسيري بقيمة 1.15 مليار دولار.
وقد تعهدت فرنسا بمثل ذلك، حيث أعلن وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير قبيل مؤتمر باريس، أن فرنسا ستساعد السودان المثقل بالديون والذي يخوض عملية انتقال ديمقراطي في سداد متأخراته من الديون لصندوق النقد الدولي من خلال إقراضه 1.5 مليار دولار، وكل ذلك من أجل جعل السودان مؤهلاً لأخذ مزيد من القروض من المؤسسات الدولية، بعد الخضوع التام لروشتاتها التي تتمثل في رفع الدعم الكامل عن السلع، وهو ما التزمت به الحكومة، فرفعت أسعار الوقود والخبز والكهرباء والماء والغاز وغيرها. كما عملت على تخفيض سعر الجنيه السوداني مقابل الدولار الأمريكي، ما جعل الحياة جحيماً لا يطاق في خطوة لبيع مقدرات السودان، أو بالأحرى تسليمها بالكامل للشركات الأجنبية، حتى تنهب ثروات السودان الظاهرة والباطنة.
أما الهدف الرئيس للمؤتمر، وهو هدف غير معلن، فهو علمنة السودان بشكل صريح للحيلولة دون وصول الإسلام إلى سدة الحكم، وهو هدف تشترك فيه أوروبا وأمريكا على السواء، رغم صراعهما في السودان على النفوذ، فقد قال الرئيس الفرنسي ماكرون في فاتحة المؤتمر: "إن الحرية والسلام والعدالة ثلاث كلمات رددها ممثلو الثورة السودانية"، مشيدا بالعملية الانتقالية التي وصفها بأنها أول انتصار في المنطقة ضد الإسلام السياسي. وهو الهدف نفسه الذي حدده رئيس الوزراء قبل ذهابه إلى مؤتمر باريس، حيث ذكر حمدوك أن أهم الأشياء التي يتطلعون إليها من مؤتمر باريس هي إظهار السودان وإعادته إلى مكانه الحقيقي في العالم، وأنه بلد ينبذ الإرهاب، وينشد السلام والأمن، ويفتح الباب أمام كل من يساعد في تطوره واندماجه مع المجتمع الدولي.
ومعلوم أن الإرهاب في السياسة الدولية هو الإسلام، ونبذ الإرهاب الذي قاله حمدوك والتزم به هو حذف ما تبقى من بعض أحكام الإسلام في النظام الاجتماعي، وبعض الحدود في نظام العقوبات، وتغيير مناهج التعليم، بحيث تتواءم مع شرعة الكفر الدولية.
ومن المعلوم أن السلطة الانتقالية في السودان، يتجاذبها طرفا الصراع الدولي أمريكا وأوروبا، وهذا المؤتمر برعاية أوروبية (فرنسا) لذلك نجد أن وجود أمريكا فيه ضعيف نسبياً، حيث شاركت مديرة صندوق المعونة الأمريكية سامنثا باور، التي قالت إن "بلادها ستفعل كل ما في وسعها لدعم السودان"، وهو كلام للاستهلاك السياسي. كما أن البنك وصندوق النقد الدوليين تتحكم فيهما أمريكا بشكل مباشر، لذلك ستضع أمريكا العراقيل أمام الحكومة الانتقالية بقيادة حمدوك حتى تفشلها، وإن استطاعت أن تسقطها ليتولى الحكم رجالات أمريكا، وما يؤكد هذا القول، أن الضغوط لا تزال تترى على الحكومة، فقد كشف وزير المالية جبريل إبراهيم في مقابلة مع قناتي العربية والحدث يوم السبت 22/05/2021م عن تلقي الحكومة لمطالب جديدة برفع الدعم عن سلع أخرى، وأضاف: "نحن لسنا على استعداد في الوقت الحالي لرفع الدعم عن غاز الطبخ والخبز وقد اتفقنا معهم أن يأتي هذا الإجراء في وقت لاحق".
هذه هي حقيقة مؤتمر باريس والتي ظهرت آثارها مباشرة في تدني سعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار، حيث ارتفع من 400 جنيه إلى أكثر من 450 جنيها للدولار الواحد، وما زال الحبل على الجرار، ما أدى وسيؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات التي أصبح لهيبها يشوي أهل السودان صباح مساء.
إن الحقيقة التي يعرفها القاصي والداني هي أن السودان بلد غني بثرواته الظاهرة والباطنة، وأنه حقيقة سلة غذاء العالم، لكنه مفقر بسياسات حكامه الذين لا يهمهم إلا مرضاة الكافر المستعمر، ولو كان على حساب خراب البلاد وإفقار العباد. وإن الحل الجذري هو في إقامة حكم الإسلام في ظل الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، تقطع يد الكافر المستعمر، وتتحلل من ربا الصناديق الربوية، وتفجر طاقات الأمة وثرواتها لمصلحة العباد، هذا هو الذي يخرج السودان، بل والعالم كله من جشع الرأسمالية البغيضة.
* الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع