2- نظرة واعية في ثورات الشعوب المسلمة، ونقاش هادئ مع أصحاب الدولة المدنية والمطالبين بها في بلاد المسلمين.
يُروِّج اليومَ كثيرٌ ممن برزت أسماؤُهم في الساحة السياسيةِ والإعلامية لما يسمُّونه الدولة المدنية، وذلك على خلفية ما حدث ويحدثُ خاصةً في البلاد العربية هذه الأيام من حراكٍ سياسي من أجل التغيير. وقد برز هذا المصطَلح في الشارع من خلال الشعارات في كثير من البلدان الثائرة حتى بـاتَ يتردد في الأوساط الإعلامية والمنابرِ السياسية كخلاصةِ أو مُجملِ ما تريده الشعوبُ المسلمة المنتفِضة.
إن مما هو معلوم من النصوص الشرعية أن الشركَ لا يقتصر على السجود لصنمٍ أو الركوعِ لغير لله أو اتخاذِ شيءٍ مادي رباًّ سواه، بل إن من أعظم الشرك الاعتراض على حكم الله، ولكن الواقع في بلاد المسلمين ينطق بأن الكثيرَ من أبناء الأمة هم اليومَ بلسان الحال معترضون على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية تحت ذرائع شتى ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾، مع أن الإسلام في جوهره يعني الخضوعَ الكامل لحكم الله، وذلك هو عبادة الله تعالى بالاستجابة والاحتكام والامتثالِ لأحكام الشريعة أي لأوامر الله ونواهيه على مستوى الفرد والدولة في كافة شؤون الحياة.
وللتدقيق في المسألة لا بد من تقرير الأمور والحقائق التالية:
أولاً: حقيقة الوعي السياسي: لا وعي سياسي بدون عقيدة سياسية أي قاعدة فكرية، فهي مُرتَكزُه ومُنطلقه. فالوعي السياسي هو النظرة إلى العالم وأحواله من زاوية محددة، ويرتكز دوماً على فكر معين، مؤصلاً ومَتيناً كان أو واهياً وسقيماً. ولكن إذا كان هذا الفكر مبدأً أي فكراً أساسياً مفسِّراً لوجود الإنسان في هذا الكون وفي هذه الحياة، يكون الوعي أرقى وأكثر قوةً وصلابةً وانسجاماً وتأثيراً وإنتاجيةً في الواقع، ومؤهّلاً بالتالي لينتج وينشئ حضارة. فما بالك إذا كان المبدأ مبنياً على العقل موافقاً لفطرة الإنسان معالِجاً لكل مشاكل البشر بشكل مفصل دقيق منبثقٍ منه، كما هو حال الإسلام؟
ثانياً: بطلان الفكر الديمقراطي من أساسه، ويرتكز هذا البطلان على أمرين:
- سخافة الفكرة القائلة بأن مسألة وجود الخالق مسألة فردية نسبية ينبغي سحبها نهائياً من على طاولة البحث، وبالتالي وجب إقصاء الدين وإبعادُه عن الشأن العام وجعل الشعب أو الشعوب هي التي تقرر في كل شيء. والمستهدَف بهذا القول بطبيعة الحال في بلاد المسلمين هو الإسلام. ومنه زيف مطلب الدولة المدنية المبنية على تلك النسبية وأكذوبة تأجيل الصراع أو الخلاف على أساس المعتقد، التي تفرِّق بين أبناء الوطن الواحد بحسب معتنقي هذه الضلالات! ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ﴾.
- أما الأمر الثاني فهو نفاق الغرب ولعبة الديمقراطية الزائفة وخرافة سيادة الشعوب في الغرب نفسه فضلاً عن الدول الوطنية في بلادنا والكيانات الهزيلة التي صنعها الغربُ الاستعماري على مقاسه على أنقاض الخلافة لخدمة مصالحه، والتي هي في الحقيقة كيانات كرتونية ديكتاتورية قمعية حتى بتوصيفهم هم، والكل يعلم كيف تجري في بلاد المسلمين عمليةُ "اختيار" نواب الشعب في مجالس خداع الشعوب (البرلمانات) في ظل هذه الأنظمة. ومن ذلك أيضاً كذبة حقوق الإنسان والحرية أو الحريات بمفهوم الغرب التي لا تعني في بلاد المسلمين سوى التفلت والانسلاخ من أحكام الشريعة. فهل الديمقراطية بهذا التوصيف مؤهلة أصلاً لإنقاذ المسلمين من حالة الضياع والتردي والانحطاط الذي هم فيه؟
ثالثاً: بطلان الدولة المدنية التي يعتبرها أصحابها دولةَ العدل والقانون والحرية والمساواة ودولة المؤسسات والعدالة المستقلة وحقوق الإنسان، والتي هي في الحقيقة ليست سوى الدولة العلمانية المتنكرة لنظام الإسلام تحديداً، ولو كره المضبوعون بثقافة الغرب من المعتدلين وغيرهم. إذ هي الدولة التي لا يتقرر فيها الحق من الباطل ولا ما يُنفَّذ فيها من سياسة وقانون في المجتمع إلا وفق ما يقرره الشعب عبر المجالس النيابية بعيداً عن وحي السماء، على افتراض تحقق أكذوبة احترام سيادة وإرادة الشعب! أما مطلب إبعاد الجيش عن السياسة لكي تكون الدولة مدنيةً حقّاً، ففضلاً عن كونه مغالطة قد تؤسس في أذهان السذج من المسلمين لفكرة استعداء الجيش بل ولاستعداء كل من يحمل السلاح من أبناء الأمة وبالتالي قطع الطريق على نُصرة القادرين على التغيير من أهل القوة في المجتمع، فإن هذا المطلب ليس في واقع الأمر سوى خدعة من أصحاب العلمانية، هذا الطرف أو ذاك من المتصارعين على السلطة والنفوذ بحسب التبعية للأجنبي، لكي يتم بهذه الخدعة توظيفُ الإسلاميين في الصراع لخدمة مآربهم في مواجهة خصومهم السياسيين. وقد ثبت عبر التجربة في العديد من الأقطار أن العلمانيين كاذبون، إذ هم يصطفون دوماً مع العسكر أي مع الحاكم الفعلي كلما تحركت الشعوبُ ولو بالكثرة مطالبةً بالعودة إلى مبدأ الأمة وتحكيم الشريعة، والأمثلة من الواقع لا تحصى! وذلك لسبب بسيط هو أن العلمانيين في حقيقة الأمر يحملون مبدأ الغرب عدو المسلمين ويعتنقون باسم التقدم والحداثة منهجَه وأفكارَه ومفاهيمَه عن الحياة، رغم أن كثيراً منهم لا يقرُّون بذلك بل يحسبون أنهم مسلمون يحسنون صنعاً بشعوبهم. كما أن مطلب الدولة المدنية عند نُخبهم المرتبطة بالغرب فكراً وشعوراً يعتمد خدعةَ إبعادِ الدين عن المشهد الثوري مؤقتاً حتى نجاح الثورة أو حتى يسقط النظام بزعمهم، أي إلى ما بعد إزاحة ما يسميه المنتفضون المحتجون في الشوارع العصابة المجرمة أي الطغمة الحاكمة، من عسكريين ومدنيين. والحقيقة المرة هي أن هؤلاء الإسلاميين ظلوا على مدى عقود يُلدغون من الجحر نفسه مرات ومرات ويسقطون في كل مرة في هذا الفخ المميت! وذلك من حيث إن العلمانيين أو الديمقراطيين لا يقرُّون أصلاً للإسلاميين، رغم أنهم شركاؤهم في الحراك الشعبي، بأن الإسلام فيه نظام سياسي أي نظام للحكم والاقتصاد والاجتماع والتعليم وتشريع وقضاء ومنظومة قانونية كاملة لتسيير الشأن العام. والنتيجة هي حتماً أنه سوف يحصل الصدام فوراً بعد "انتصار الثورة" إذا ما انتصرت عندما يبدأ النقاش حول ما ينبغي أن يطبَّق في المجتمع من نُظم وقوانين، كون العلمانيين وهم يحملون فكرَ الغرب، متوهمين أنهم يحملون "أنواراً" وقيماً عالميةً متفَقاً عليها لدى شعوب الأرض كلها بل ومطلوبةً بالفطرة عند جميع البشر، يرفضون بشدة إقحامَ الدين في السياسة، بمفهوم الدين عندهم، ظانين بكل صلفٍ ووقاحة أن ذلك ينسحب على الإسلام أيضاً! وذلك كله على افتراض نجاح الثورة وتمكنِ الحراك الشعبي من إزاحة العسكر وتحقيق الحكم المدني المزعوم. وعندئذ سيرى الإسلاميون بأعينهم أن العلمانيين يستقوون مجدداً بالغرب في مواجهتهم كما في كل مرة، بل وينقلبون على الانفتاح السياسي واللعبة الديمقراطية نفسِها كما أثبتت التجربةُ مراراً عندما يكون الصدام مع الإسلام. وذلك هو ما تقرره أولاً النصوصُ الشرعية، إذ بعضُ أعداء الإسلام أولياء بعض وأنهم لا يرقبون في المؤمنين إلاً ولا ذمةً، ثم يُثبته بعد ذلك المشاهَدُ على أرض الواقع من التجارب والأحداث!! وعندئذ سيتم إقصاء الإسلاميين سريعاً من اللعبة السياسية، وقد تلغى التعدديةُ السياسية ويُغلق المجال ويخرج الجيش من الثكنات وقد تحدث المذابح في الساحات، ويخرج هؤلاء الإسلاميون الذين كانوا بالأمس شركاء العلمانيين في الحراك من ساحة الصراع والمعركة السياسية مع النظام المدعوم من الغرب دون تحقيق أي هدف، مدحورين مخذولين من جميع الأطراف، لأن واقعهم ببساطة هو كمن دخل المعركةَ بدون سلاح!! ذلك أنهم تنكَّروا للإسلام فتخلى الله عنهم. والنتيجة ستكون حتماً أنه جرى توظيف الإسلاميين بدهاء سياسي بغرض احتواء سخط الجماهير والالتفاف على مطالب الشعب الحقيقية المنقِذة من شرور الغرب وجرى امتصاص الغضب الشعبي وإعادة إنتاج النظام نفسه التابع للغرب ولكن في ثوب جديد! وهذا بالضبط هو ما مِن أجله جيء بالغنوشي ومرسي وبن كيران وأمثالهم عقب حدوث الثورات الأخيرة أو تحسباً لانتفاضات الشعوب في بعض البلاد. وهو في الخلاصة ما يعني توريثَ الشعب البقاء في حالة التبعية والتردي والضياع لعقود آتية، ولكن بجرعة جديدة قاتلةٍ من خيبة الأمل ومن اليأس من إمكانية تغيير الحال!!
[يتبع...]
رأيك في الموضوع