إنَّ النفوذ السياسي في لبنان، واقع تحت السيطرة الأمريكية المباشرة عبر سفارتها ومبعوثيها، وغير المباشرة عبر وسطاء إقليميين مثل سوريا والسعودية وإيران، أما أوروبا فلها رجالات تحاول من خلالهم مناكفة أمريكا، ولعل أبرز ما ظهر في هذا الجانب هو دعوة التدويل التي دعا إليها البطريرك الراعي، ودعاوى الانتخابات النيابية المبكرة التي لا ينفك يطالب بها جعجع وجنبلاط، والتي ترفضها أمريكا التي تُحْكِمُ سيطرتها على كل مراكز القوى السياسية والأمنية في هذا الكيان الهزيل.
المستجد في وضع لبنان اليوم، هو ظهور ثروة نفطية وغازية على شواطئه، جعلته محط أنظار السيطرة الاقتصادية الاستعمارية المباشرة، لا سيما من أمريكا، ولعل هذا ما أثار حفيظة أوروبا متمثلةً بفرنسا، التي تقبع الثروة الغازية الهائلة قريباً من شواطئها، أي على شرق المتوسط، ما جعل الرئيس الفرنسي ماكرون يزور لبنان مرتين بعد انفجار مرفأ بيروت، وكان يخطط لثالثة، تم إلغاؤها بذريعة إصابته بكورونا، ولم يعد بعدها إلى لبنان! الواضح أنَّ المبادرة الفرنسية ميتةٌ لا حياة فيها، ومن يزعمون التمسك بها حتى من رجالات أمريكا، يعلمون أنهم متمسكون بما لا يسير بالحل.
ظهور هذه الثروة على شواطئ لبنان، وكأنه يدفع أمريكا، ومن باب بسط نفوذها الاقتصادي المباشر على البلد، إلى أن تعيد ترتيب أوراق البيت الداخلي اللبناني، ما قد يستلزم وجوهاً سياسية جديدة تُطعّم بها الطبقة السياسية، لتضعه على سكة ثعبان صندوق النقد والبنك الدوليين، فتسير بلبنان كما سارت بمصر وباكستان والسودان من قبل.
يصاحب ذلك وجود رغبة أمريكية باستبعاد النفوذ المباشر لحزب إيران في لبنان على الحكومة ومناصبها الوزارية، لكن على ما يبدو أن هذا مرتبط بالمفاوضات بين أمريكا وإيران بشأن الاتفاق النووي، الذي سيشمل تأثير مليشيات إيران في المنطقة وأبرزها حزبها في لبنان، وتصريحات أمريكا على لسان مبعوثها للملف الإيراني روبرت مالي، وتصرفاته الـمـُجاملة من خلال الاحتفال بعيد النيروز الإيراني، تُظهر السير في توقيع الاتفاق في وقت غير بعيد.
ولطالما نفذ حزب إيران في لبنان سياسة إيران في المنطقة التي كانت تخدم سياسة أمريكا، وحين رأت أمريكا أنها استنفدت قوة إيران، فإنها منذ أواخر عهد أوباما مروراً بعهد ترامب بات واضحاً سعي أمريكا لإعادة صياغة الدور الإيراني في خدمتها بحيث لا يكون متفرداً، بل تقسمه بين عملائها الآخرين في المنطقة مثل السعودية ومصر بعد خروجهم من ثورات الربيع العربي، وتركيا التي تدور في فلك أمريكا وتقدم لها خدمات جليلة في مناطق نفوذ عديدة، ويبدو أن السياسة الخارجية بهذا الشأن ستستمر في إدارة بايدن، وها هي أمريكا تعيد ترتيب الصلات بين عملائها والدائرين في فلكها.
وبالطبع فإن حزب إيران في لبنان قد يعمل على تمرير الوقت بانتظار نتيجة المفاوضات بين إيران وأمريكا.
أما الأقطاب المتشاكسون؛ رئيس الجمهورية ميشال عون، والرئيس المكلف بتشكيل الحكومة سعد الحريري، فمن الواضح عدم الرضا السعودي المنعكس عن عدم الرضا الأمريكي عن الرئيس الحريري، وحركة الحريري السياسية في المنطقة مستثنية السعودية، ثم حركة السفير السعودي في لبنان مستثنية الحريري، تظهر عدم الرضا الأمريكي عن مسلك الحريري المتردد بينها وبين فرنسا. بل إنه بعد إعلان فشل التشكيل الأخير يوم الاثنين 22/3/2021م، ورغم ما كشفه الحريري من إرسال ميشال عون جدولاً له لتعبئته بالتشكيلة التي تناسب عون وفيه الثلث المعطل الذي يرفضه الحريري، كانت زيارة السفيرة الأمريكية دورثي شيا، والسفير السعودي وليد البخاري وكأنها إحياء لسيد القصر الجمهوري وتثبيتاً لوجوده.
لذلك فإن أمريكا كأنها ترى الإبقاء على هذا الوضع في لبنان، أي الإبقاء على الرئيس عون، حيث لم يبق من فترته الرئاسية إلا ما يقارب السنة، والتي ترى أمريكا خلالها أنها تستمر بالمحافظة على يدها الطولى في الحكم، وتبقى محافظةً على عدم انهيار البلد عبر هندسات رياض سلامة المالية! وتكون خلالها قد أحدثت بعض التغييرات وأوجدت بعض المكاسب لوجوه سياسية جديدة.
إضافة لعامل ارتباط الملف اللبناني بالملف السوري بشكل كبير، ما دفع أمريكا لاستخدام علاقة روسيا بإيران وحزبها لوضع حزب إيران بصورة الأوضاع الجديدة في سوريا وكذلك لبنان، فاستدعت روسيا ممثلاً عن حزب إيران هو محمد رعد إلى وزارة الخارجية الروسية، والتقى سيرغي لافروف بالحريري!! ولا يفوتنا هنا النهم الأمريكي لمشروع إعادة إعمار سوريا الذي يكلف 250 مليار دولار بحسب الأمم المتحدة، و400 مليار دولار بحسب النظام السوري، وفي الحالتين هي ميزانية ضخمة تجعل أمريكا تحاول بسط نفوذ شركاتها للقيام بهذا الأمر، ويبدو أن نظرة أمريكا المستجدة واهتمامها بمدينة طرابلس خصوصاً والشمال اللبناني عموماً تقع ضمن هذا السياق، لذا بتنا نرى طروحات جديدة للمنطقة لناحية تأهيل مينائها ومطارها ومصفاتها حيث تُعد من أفضل نقاط الانطلاق في إعمار سوريا، رغم أنها كانت لعهد قريب توسم بالإرهاب من جانب أمريكا! ولا شك أنَّ إعادة تأهيل المنطقة تحتاج وقتاً تديره أمريكا.
كذلك لا يبتعد الملف الفلسطيني عن الملف اللبناني لناحية قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وكلا الملفين السوري والفلسطيني تم تفعيلهما بشكل واضح من جهة إدارة بايدن.
أما الحَراك الشعبي الذي كان بدأ في 17/10/2019م، فقد صار واضحا أنه بات ميتاً سريرياً، وأنَّ أقطاب الأحزاب السياسية للطبقة السياسية الفاسدة قد تقاسمت هذا الحَراك، وتستخدمه ورقةً لإيصال الرسائل السياسية والضغوطات متى لزم الأمر!
وعليه فإن تعطيل التشكيل يمكن إيجازه في نقاط:
- المفاوضات الإيرانية الأمريكية بشأن الاتفاق النووي، والذي سيشمل نفوذ أتباع وأشياع إيران في المنطقة.
- ظهور ثروة نفطية وغازية ما يجعل لبنان محط نظر الاستعمار الاقتصادي المباشر من أمريكا.
- وهذا قد يستلزم إعادة ترتيب أوراق الطبقة السياسية الفاسدة المنبوذة من الناس، وإدخال وجوه جديدة لها.
- ارتباط الملف اللبناني بالملفين السوري والفلسطيني.
- حرص أمريكا على عدم السماح لأي قوة دولية باختراق نفوذها في لبنان الذي بسطته بشكل قوي منذ السبعينات.
إن الغرب وعلى رأسه أمريكا يتحكمون بالسلطة في بلادنا ومنها لبنان، ولا يقطع دابرهم إلا دولة الخلافة على منهاج النبوة التي تنهض بالأمة، وتعيد لبنان إلى أصله جزءاً من بلاد الشام خصوصاً والأمة الإسلامية عموماً فينتظم عقده وتُحل مشاكله جذرياً على أيدي المخلصين، بعد أن اتسع الخرق على الراتق بسبب الحلول الترقيعية التي خدمت، ولا تزال، بقاء الفاسدين ونفوذ الكفار المستعمرين. فيجب أن يبقى في الحسبان أن القادر على التعطيل دوماً أو تشغيل البلد هي أمريكا، وهذا أثبتته الأحداث منذ سنة 2000، لا بل من قبل ذلك.
رأيك في الموضوع