ظنّ الكثير من النّاس أنّ عشرية الجزائر السوداء في حقبة التسعينات من القرن الماضي، وما صاحبها من مذابح ومصالحات كاذبة سُمّيت بالمواءمات الوطنية بين الحكومة وشعبها لن تتكرّر في الدول العربية مرّة أخرى، وأنّ المائتي ألف قتيل من ضحاياها، والذين كانوا وصمة عار في جبين حكام الجزائر، ظنّوا أنّه من المستبعد حدوث مثلها مرّة أخرى في مُحاولات التغيير التي ظهرت في الثورات العربية والتي اندلعت منذ عشر سنين وما زالت ارتداداتها تطفو في وجدان الشعوب، وما فتئت تلوح لهم في فرص التغيير المستشرفة لديهم في الأفق القريب أو البعيد.
لكن الشعوب العربية قد صُدِمت من جديد بعشريات سوداء جديدة في سوريا وليبيا واليمن؛ ففي العشرية السورية على سبيل المثال تكررت المذابح والمجازر، وظهرت فيها شتى فنون التعذيب والقتل الذي طال الأبرياء من نساء ورجال وأطفال، فأودت بحياة أربعمائة ألف شخص على الأقل، وهو ضعف عدد قتلى مذابح العشرية الجزائرية، إضافةً إلى تهجير أحد عشر مليون لاجئ وهو نصف عدد سكان سوريا، ومن ثمّ تحويلهم إلى مُشردين ولاجئين ونازحين، تفرقوا على مائة وثلاثين دولة، ستة وستون بالمائة منهم من النساء والأطفال.
ثمّ بعد كل هذه المآسي والنكبات التي حلت بأهل سوريا نجد أنّ المجرم بشار الأسد ما زال مُتشبثاً في كرسي الحكم يجثم على آلام شعبه ويدوس على أحزانهم، بينما العالم بأسره يؤيده سراً أو علانية، بشكلٍ مُباشر أو غير مُباشر.
فروسيا وإيران وحزبها في لبنان، ومليشياتها من العراق وأفغانستان، كلهم يدعمونه مباشرة بالجنود والعتاد والمال، وكذلك جميع الدول العربية ومعهم الجامعة العربية تدعمه بشكلٍ مُباشر، ويمنحونه الغطاء للاستمرار في جرائمه، ويدعونه للعودة رسمياً إلى عضوية الجامعة العربية والتي كانت مُجمّدة شكلياً.
وأمّا أمريكا وأوروبا وتركيا والأمم المتحدة فيدعمونه بشكل غير مباشر، وهو أخطر من الدعم المباشر، لما فيه من خداع وتدليس بادعاء الحيادية في التعامل مع أطراف النزاع، فهم يزعمون المُطالبة بمعاقبته على جرائمه كلاماً بينما هم لا يفعلون أي شيء لإيقافه عن تلك الجرائم، وما يفضح مُراوغاتهم وأضاليلهم هو صدور بيان مشترك مؤخرا لاجتماع وزراء خارجية كل من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا يعيدون فيه مطالبتهم بالتمسك بالحل السلمي على أساس قرار مجلس الأمن رقم 2254 الذي صدر عام 2015 المبني على اتفاق جنيف عام 2012، ويدعمون جهود المبعوث الأممي لسوريا غير بيدرسون الذي قال: "إنّ هناك فرصة نادرة في الأفق لإنهاء القتال الدائر هناك بعد مرور 10 سنوات على بدء النزاع السوري، وإذا ضُيّعت هذه الفرصة فإنّ القتال سيستمر لعقد آخر"، فهو يبشرنا بعشرية سوداء قادمة إذا لم يتم انتهاز هذه - الفرصة النادرة - التي لا تعني بحسب كلامه إلا استسلام الشعب السوري الكامل لبشار المجرم، ثم وضح بيدرسون تصوره للحل بأنه يعتمد مبدأ: "الخطوة خطوة لبناء الثقة والتوصل إلى حل تفاوضي"، وهذا يعني السير في التفاوض البطيء جداً بين المتفاوضين لإعادة الثقة بنظام بشار خطوة خطوة، وكررت السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة الكلام نفسه تقريباً عندما قالت: "لقد حان الوقت لتحقيق الوحدة والتقدم بحل سياسي، ولا يمكن أن تكون الذكرى الحادية عشرة للأزمة كالذكرى العاشرة لها"، فهي تعتبر الثورة وما جرى فيها من مذابح وتهجير طال نصف الشعب السوري مجرد أزمة مرت عليها عشر سنوات، وتنتظر هذه الأزمة السنة القادمة أنْ يأتي حل لها يتوافق الأطراف عليه ضمن النظام المجرم القائم.
والخلاصة أن أمريكا وأوروبا ينظرون إلى ما جرى من منظار بقاء نظام الأسد، وأن على الذين خرجوا عليه أنْ يتصالحوا معه، ويعيدوا ثقتهم به بالسير في الحل معه خطوة خطوة، فنظام بشار هو نظام مهم جداً لأمريكا، وهي لا تسمح بهدمه لأنه نظام عميل ومخلص لها، فهو يحمي مصالحها، ومن أهم هذه المصالح قيام نظام بشار بالعمل لمنع قيام الخلافة في بلاد الشام والمنطقة، وقمع حركة التغيير الشعبية بقسوة في سوريا.
لقد استخدمت أمريكا في الحفاظ على نظام بشار وفي التعامل مع الثورة السورية وقمع الشعب السوري الأساليب نفسها التي استخدمتها في فلسطين تماماً، وذلك من حيث إصدار قرارات دولية عامة غير قابلة للتطبيق، ومُخدرة للشعوب.
فقرار 2254 الخاص بسوريا يُماثل قرار 242 الخاص بفلسطين، واتفاق جنيف ومؤتمراته من 1 إلى 8 إلى جانب مؤتمرات سوتشي وأستانة ومُشتقاتها، تُشابه إلى حدٍ ما اتفاقات مدريد وواي ريفر وطابا وأخواتها، ومبدأ الخطوة خطوة وإعادة بناء الثقة تماثل تماماً مفاوضات السلطة الفلسطينية في العشرين سنة الماضية مع كيان يهود والتي لم تفضِ إلى شيء، وهكذا يتم تضييع قضايا الأمّة الرئيسية والتآمر على شعوبها بارتكاب المجازر الدامية واستصدار القرارات غير القابلة للتطبيق، والنتيجة أنه تم تثبيت الكيانات والأنظمة الحامية لمصالح أمريكا والغرب.
لذلك كانت النظرة الصحيحة تقضي بعدم تسليم قضايا الأمة لأعدائها، وعدم تمكين أمريكا والغرب من العبث في شؤون الأمّة، ثمّ تسليم زمام قياد الأمة لأبنائها المخلصين الذين يتخذون من الإسلام عقيدة ومنهجاً ونظام حياة، لإقامة دولة الإسلام في هذه البلاد التي ثارت من أجل التخلص من هؤلاء الحكام الطغاة، بتطبيق الحكم بما أنزل الله، وكنس النفوذ الأمريكي والغربي من البلاد الإسلامية، واستئصال الأورام السياسية السرطانية في جميع بلاد الشام.
رأيك في الموضوع