تكثر هذه الأيام التحليلات السياسية لما يجري على الساحة الليبية وتذهب الآراء يميناً وشمالاً وأغلب هذه الآراء والتكهنات هي تمنيات أصحابها؛ منهم من يبشر بالحلول وأنها صارت قاب قوسين أو أدنى، ومنهم من يسوق البراهين على انتهاء حفتر قريباً وانتهاء الأزمة متناسين أن حفتر وغيره ممن هم في المشهد السياسي ليسوا سوى أدوات رخيصة عند المستعمر. أما ما تشهده البلاد من حراك سياسي وحوارات فليست إلاّ مسكنات.
منذ أن تركز الوجود التركي في الجزء الغربي من البلاد والبعثة الأممية برئاسة ستيفاني وليامز في نشاط زائد ولقاءات دائمة وحوارات متعددة من أبو زنيقة في المغرب إلى الرباط إلى تونس وبعدها غدامس في ليبيا، ثم عقد الحوارات عبر الشبكة العنكبوتية؛ ترسم السراب للمتحاورين، وهم يظنون أنه الماء الزلال، وقد نجح غسان سلامة قبل أن يغادر في إعداد لائحة لها من الأشخاص اللاهثين والباحثين عن دور لهم في المشهد، وتتصرف وكأنها الحاكم الفعلي للبلاد نيابة عن أمريكا ومجلس الأمن.
والسؤال الذي يفرض نفسه: ما حقيقة هذه التحركات المتعددة والتي تأتي من أكثر من جهة، والتصريحات الصادرة عن أكثر من جهة؛ ومنها:
- زيارة مدير المخابرات المصرية لبنغازي واجتماعه مع حفتر في آخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر.
- زيارة وزير الدفاع التركي في 26/12/2020 مصحوباً برئيس أركان الجيش التركي، ولقاؤه مع وزير الدفاع الليبي، وتهديده لحفتر في شخصه، والتهديد من طرابلس وليس من تركيا.
- زيارة نائب مدير المخابرات المصرية في 27/12/2020 إلى طرابلس للمرة الأولى منذ 6 سنوات ولقاؤه مع وزير الداخلية وعضو المجلس الرئاسي أحمد معيتيق.
- كلام عن مسؤول رفيع المستوى في النظام المصري نقله الدكتور المهندس محمد صالح مسعود بويصير مفاده (لماذا ندعم حفتر ونخسر ليبيا؟).
- صحيفة الغارديان البريطانية عنونت في منشيت لها: "حفتر فقد نفوذه خارجياً ومكانته محلياً".
لقد سبق هذه الأحداث لجنة حوار "75" والتي كانت منعقدة في تونس، في آخر جلسة لها قررت في 13/11/2020 إجراء انتخابات نيابية ورئاسية في البلاد في 24/12/2021.
- في 19 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي مجلس النواب الأمريكي يعتمد قانون "دعم الاستقرار في ليبيا".
هذه جملة من الأحداث والمعطيات حصلت، فكيف يمكن فهمها؟
وهنا لا بد من ملاحظة الآتي:
1- فشل لجنة "75" للحوار السياسي الجاري في تونس في الاتفاق على شخصيات السلطة التنفيذية الجديدة بسبب التنافس والتصارع على المواقع في السلطة الجديدة وظهور كيانات وأشخاص مدفوعين من الجبهات الخارجية المتصارعة هي أيضاً على إيصال من ينفذ مصالحها في البلاد. بعد هذا الخلاف الذي لم يكن ليؤدي إلى تهدئة الأزمة وإبعاد شبح العودة إلى الحرب بقدر ما كان يقود إلى تفجير الأوضاع من جديد، وزيادة الانقسام لأن أغلب الموجودين في ذلك الملتقى همهم البحث عن حصة أكبر لأنفسهم من الغنيمة.
2- الأجواء الدولية العامة في غياب القطب الأمريكي بانشغاله في ترتيب أوضاعه وأوراقه المحلية التي حتمت على الوكلاء الإقليميين، تركيا وروسيا ومصر بالضبط في اتجاه إيجاد حالة من الاستقرار وعدم السماح بالتفجير، وبالتالي فتحت باب الحوارات.
ليس المهم الوصول إلى حلول الآن بل استمرار ملء الفراغ إلى حين. ولهذا شاهدنا لقاءات تركية روسية لبحث الأوضاع في ليبيا وتصريح وزير الخارجية الروسي: "إن تركيا كانت مفتاح السلام في ليبيا ولا يمكن استثناؤها من أي اتفاق".
وفي 29/12/2020 يؤكد لافروف وزير الخارجية الروسي استمرار التعاون العسكري بين روسيا وتركيا. وقد نشرت وسائل الإعلام خبر تلقي محمد سيالة وزير خارجية الوفاق اتصالاً من نظيره المصري.
وصرح محمد سيالة عقب لقائه بلافروف: "نتطلع إلى لم شمل الليبيين" ويعلق لافروف "من المهم تنسيق المواقف بين جميع الأطراف في ليبيا تحت مظلة الأمم المتحدة". وسيالة يطالبه بدعم خروج المقاتلين الأجانب من ليبيا، حتى كان يوم 24/12/2020 في احتفال ذكرى استقلال ليبيا عن الانتداب البريطاني سنة 1951م. في خطاب السراج في ساحة الشهداء أشار إلى ضرورة التئام المجلس الرئاسي بجميع أعضائه وخصوصاً المقاطعين ومنهم الممثل عن المنطقة الشرقية وهو مع حفتر، في إشارة إلى أنه باقٍ حتى 24/12/2021 للإشراف على انتخابات قررها ملتقى الحوار في تونس. ورغم إشادته بالثوار ودفاعهم عن طرابلس غير أنه لم يتناول حفتر بالاسم وهذا ما يجعل للتسريبات التي تحدثت عن رسالة من السراج إلى حفتر مع وزير خارجية إيطاليا يعرض عليه تعيين أحد من طرفه في الحكومة القادمة (حسب ما نشرت جريدة إيطالية)، وإن كان السراج قد نفى الخبر، ولكن حفتر في احتفال مواز في بنغازي صعّد الخطاب وأصدر الأوامر لمن معه من مسلحين بضرورة الاستعداد لمهاجمة المحتلين "الأتراك" وبأن على الأتراك الخروج من ليبيا باختيارهم أو بالقوة. رغم تعدد التفسيرات لدوافع حفتر من وراء هذا الهجوم الكلامي على السراج والأتراك غير أن التفسير الوحيد هو شعوره بأن الأمور تذهب في اتجاه إبعاده لاحقا عن المشهد، فهو يحاول لعله يستطيع البقاء في المشهد السياسي بافتعال أعمال عسكرية ما بحجة مواجهة "الاحتلال التركي"، ومن هنا كانت ردة فعل الأتراك قوية شيئاً ما، فبعدها وصل الوفد التركي يوم 26/12/2020 أي بعد يومين من كلام حفتر إلى طرابلس، ولوحظ أن الوفد كان على مستوى وزير الدفاع ورئيس الأركان، وعقد مؤتمراً صحفياً هاجم فيه حفتر وسخر من رتبته العسكرية وهدده في شخصه إن حاول الاعتداء على أي عنصر تركي؛ "وليعلم المجرم حفتر وداعموه أننا سنعتبرهم هدفاً مشروعاً في جميع الأماكن".
وبعد هذا التهديد لحفتر قام عقيلة صالح بإرسال موفد إلى تركيا لتنفيس الاحتقان التركي على حفتر وعلى نفسه بمعزل عن حفتر كشخص يمكن التعامل معه بأن يكون شريكاً في الحوار عن المنطقة الشرقية وعلى الأغلب أنه أقدم على هذه الخطوة بدفع وتشجيع من مصر وروسيا حتى يبقى أحد البدائل الموجودة.
أما الوفد المصري الذي وصل طرابلس يوم 27/12/2020 فهو وفد أمني لأمور أمنية ولا أظن أنه بحث أمراً يتعلق بالحوارات أو الحلول، فاقتصر لقاؤه مع وزير الداخلية.
وفي كل الأحوال يبدو جلياً أن لا حلول حالياً وإنما هي مسكنات حتى لا ينفجر الوضع العسكري والأمني إلى حين انتهاء أمريكا من ترتيب أوراقها فيما يتعلق بليبيا.
أما المؤلم في هذا كله فهو أن جميع المشتغلين بالشأن السياسي في البلاد وضعوا جميع مساعيهم وأعمالهم وأوراقهم في يد عدوهم الذي تمثله بعثة الأمم المتحدة والممثلة لمجلس الأمن المجرم الظالم، وهذه نتيجة طبيعية لهذا الركون المعيب والمهين لهذه القوى الظالمة في مخالفة لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾.
رأيك في الموضوع