لقد كانت مهمة التدخل التركي في سوريا بالأساس هي تسليم المناطق للنظام، لأن قادة الفصائل في إدلب وما حولها تبين أنهم لا يستطيعون فعل ذلك منفردين لأنهم سيسقطون شعبياً، ما يمكن أن يؤدي إلى انعتاق الثورة من الارتباط الخارجي، فتم إدخال النقاط التركية في البداية ما دفع الناس للركون إليها خصوصاً عندما شاهدوا أرتاله الكبيرة تتجول في طول المحرر وعرضه، هذا من طرف ومن طرف آخر كان هذا مبرراً لقادة فصائل العار وشرعيي الترقيع والدولار ادعاء أن تركيا لها مصالحها القومية، طبعا حتى مصطلح الأمن القومي لا يفهمون معناه لأن ما تفعله تركيا مخالف جذرياً لمصالح الأمن القومي التركي الذي من مصلحته ألا تنسحب نقطة دخلت مهما كلفها ذلك لأن تدخلها يوازي الأمن القومي وكل تراجع يعني تراجع الأمن القومي، هذا إن كان تدخلها له علاقة بالأمن القومي التركي.
ومع تسليم طريق إم-5 ومدن خان شيخون ومعرة النعمان وسراقب وانكشاف حقيقة دور النقاط التي توجه انسحابها من مناطق النظام بعد وعود الرئيس التركي بإرجاع النظام إلى ما بعد مورك، دفعت بتركيا لإرسال تعزيزات عسكرية ضخمة لوقف تقدم النظام وشرعت ببناء قواعد عسكرية في مختلف المناطق بهدف ضبط عمليات التسليم والاستلام، ومع اقتراب شهر كانون الأول تركزت التعزيزات العسكرية في جبل الزاوية، والمراقب العادي يظن أن هذه التعزيزات الضخمة المتسارعة جنوب طريق حلب اللاذقية هي لحماية جبل الزاوية، ولكن رؤيتي وسماعي للنقارات الصخرية التي عملت ليل نهار في جبال قريتي دير حسان التي تعج بالمخيمات هي لتجهيز مخيمات نزوح جديدة، والتي تكاد تنتهي عمليات تجهيزها، وليس كما يقول بعض المحللين الطبالين الذي يحدثوننا صباح مساء عن خلاف تركي روسي.
اقتراب شهر كانون الثاني هو اقتراب للموعد المتفق عليه في مسرحية الاستلام والتسليم مع جهوزية أركان المسرح وأدواته ومعداته مع ما يلزم من تقارير صحفية ودراسات مراكز أبحاث تملأ الدنيا ضجيجاً، وهدفها الحقيقي هو ممارسة الحرب النفسية على الشعب السوري التي تعتبر من أهم أدوات الحرب بعد تجهيز المسرح على الصعيد السياسي وهنا أتذكر مقولة للجنرال الأمريكي ستانلي مكريستال القائد العام للجيش الأمريكي عندما سأله صحفي عن عجز أمريكا عن تحقيق النصر في أفغانستان رغم تفوقها عددا وعدة؟ فأجاب مكريستال: "هؤلاء الأفغان لا يشاهدون التلفاز ولا يعرفون شيئا عن أفلام رامبو وجيمس بوند ولهذا فهم لا يخافوننا"، ما يعني أن أفلامهم هي حرب نفسية، وهذا من ضمن ترتيبات المسرح الذي سيتم شن العملية العسكرية عليه.
إن المطلوب ليس مطلوبا فقط من الثوار بل مطلوب من جميع الناس في المناطق المحررة، فهذه معركتنا جميعاً ويجب أن تتضافر جميع الجهود لتحقيق الانتصار، وهذا يبدأ من أسئلة عديدة يجب أن نسألها لأنفسنا أهمها لماذا ننتظر الدفاع ولا نكون نحن المبادرين بالهجوم؟ خصوصاً بعد أن أصبح الإنسان العادي يرى ترتيبات المعركة القادمة على الجانبين، فالنظام يحشد مليشياته ويمنع عن مؤيديه في مناطق سيطرته الطحين والوقود في سبيل تأمينها لجيشه ومليشياته على جبهات إدلب، بينما فصائلنا على العكس تماماً تصرف ما تملك على شق طرقات وصرف صحي وكهرباء وماء في الوقت الذي يجب أن تكون هذه النفقات موضوعة في مكانها الصحيح لتجهيز السلاح والعتاد وفتح المعارك وإنهاك النظام بالغزوات وتحرير بلدات جديدة وتوسيع المناطق المحررة؟
أما على المستوى السياسي فإن خطوة الائتلاف العلماني صنيعة أمريكا هي خطوة متسرعة، فقد كان عليه الانتظار إلى ما بعد عملية تسليم جبل الزاوية فعندها يمكن أن تكون مقبولة بعد الهزيمة العسكرية والنفسية التي ستتلقاها الثورة، ولكن الائتلاف لم يكن هدفه أو هدف مصنعيه هذه الخطوة، بل إن ما أقدم عليه من تشكيل هيئة عليا للانتخابات له هدف آخر مختلف إن لم نقل يتوازى ويسير مع الهدف العسكري الذي تسير عليه الدول وهو الغاية الأساسية، فأمريكا ليس لديها مشكلة في الأرض فيمكنها استعادتها ولكن الهدف هو إطالة أمد الثورة لاستهداف الشعب الثائر وإنهاكه والقضاء على ثورته في داخله، ولذلك فإن أي عمل عسكري واقتطاع جزء من الأرض المحررة إن لم يحقق الهدف الأساسي وهو دفع الناس للاستسلام واليأس ولاحقاً القبول بما يُملى عليهم هو عين ما تسعى له أمريكا، وهذا ما هدفت له من دفع الائتلاف لهذا القرار، وهو بالتحديد خروج أصوات كانت ولا زالت شركاء للائتلاف وبشكل متزامن لرفض القرار واعتباره يخالف قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الذي ينص على تشكيل هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة لإعداد دستور وإجراء انتخابات في عموم البلاد، وهذا ما حاولوا تمريره على الحاضنة الشعبية للثورة، وهو اعتراف حاولوا نيله من الثورة الرافضة لكل القرارات الأممية التي تساوي بين الضحية والجلاد، هذه القرارات التي تطالب القاتل بالجلوس على الطاولة لمفاوضته وهو نفسه ما رفضته الثورة وترفضه منذ البداية بغض النظر عن خسارة الأراضي أو كسبها لأن الثورة صاحبة حق والحق لا يُجزّأ، وفي الطرف الآخر فإن المنظومة الدولية لا تريد تغيير النظام وترى في ثورة الشام خطراً عليها.
لذلك نرى أن ما يجري على الأرض من تجهيزات عسكرية بهدف قضم جزء آخر مما حررته الثورة بدماء وتضحيات أبنائها لا يختلف كثيراً عن عمليات قضم الوعي الجمعي المتراكم للثورة وأهدافها لسحبها إلى مستنقع التنازلات التي سارت فيه المعارضة المصطنعة وائتلافها في الخارج والحكومات وفصائل الارتباط في الداخل، والمعركتان لا تقل الأولى أهمية عن الثانية إن لم تكن أخطر لأن العدو يحاول ويسعى من البداية أن يمد يده لانتزاع ما أمكنه من اعتراف ولو بشيء بسيط لقرارات الأمم المتحدة ومن خلفها أمريكا للضغط على الثائرين وحملهم على التراجع ولو خطوة واحدة كافية للانحدار في المستنقع وهذا ما نجحوا فيه مع فصائل الثورة.
على أهل الشام الأحرار الذين خرجوا على النظام وطالبوا بإسقاطه أن يعلموا أن إفساد المؤامرات السياسية مهم جداً لمواصلة الطريق لتحقيق أهداف الثورة، كما هو الحال في تخريب عمليات التسليم والاستلام العسكرية التي تقوم بها الدول على حساب دماء شهدائنا وتضحيات مجاهدينا التي لن نتمكن منها في ضوء الارتباط الفصائلي بالدول والبقاء رهينة أوامره وتوجيهاته، هذان الجانبان هما الجناحان اللذان سيحلق بهما طائر الثورة نحو الانتصار والعزة والكرامة التي ننشدها جميعاً، لذلك كان علينا في هذه اللحظات التي يشتد فيها المكر والتآمر على أبناء ثورتنا أن نوجههم إلى الطريق الصحيح الذي يبدأ من الحاضنة الشعبية التي يتم الضغط عليها حتى في لقمة عيشها من حكومات وفصائل تعتاش على معاناتها وتنفذ أوامر الخارج لإرهاقها وجعلها تتمنى العودة لأحضان النظام، وعلى ذلك فإن الحاضنة يجب أن تعلم أنها هي بيضة القبان وهي من عليها أن تقرر، فالثورة قوية بقوة حاضنتها المتيقظة لما يحاك لها من مؤامرات، وثابتة على أهدافها رغم الفتن والمحن حتى نصل إلى ما يرضي الله عنا بإزالة الطغيان والقضاء على الطاغوت.
رأيك في الموضوع