هل وضع رئيس تونس قيس سعيد مزيدا من الملح على جراح الحياة السياسية في تونس بتكليفه هشام المشيشي بتشكيل الحكومة الجديدة والتي ستخلف حكومة إلياس الفخفاخ بعد أن لم تعمر أكثر من بضعة شهور لتطيح بها التجاذبات السياسية، لعدم القبول به ابتداء، وبذريعة شبهة فساد رئيسها وفي اتصال مباشر مع الصراعات الحادة التي شهدها البرلمان ومساعي سحب الثقة من رئيسه راشد الغنوشي، ما جعل البلاد مفتوحة على سيناريوهات عدة؟ جاء تكليف سعيّد للمشيشي، على سيناريو تكليف الفخفاخ نفسه وبعد مشاورات صورية كتابية، للأحزاب الممثلة في البرلمان ولبعض الهيئات الوطنية كاتحاد العمال واتحاد الأعراف، وعلى غير المتوقع مرة أخرى، ومن خارج كل المقترحات، كان تعيينه وكما ورد في خطاب التكليف: "بعد النّظر والتعمّق وقراءة كلّ الأوضاع، كلّفتكُم هذا اليوم طبقاً للفصل الـ89 من الدستور، وبعد إجراءات المشاورات كما نصّ على ذلك الفصل المذكور، (..) بتشكيل الحكومة" باعتباره الشخصية الأقدر على قيادة المرحلة، حسب تقدير رئيس الدولة وكما حدد ذلك دستور 2014.
متجاوزا بذلك مقترحات الأحزاب المعتبرة وذات الثقل البرلماني والتي كادت أن تجمع على بعض الأسماء كالفاضل عبد الكافي أو خيام التركي دون كبير اعتراض من باقي الأحزاب، فشكل اختيار رئيس الدولة لهشام المشيشي من خارج الأسماء المقترحة مفاجأة لكل الفرقاء، دفعت بالأحزاب غير ذات الوزن البرلماني إلى الترحيب بتعيينه وإسباغ المديح عليه، كونه شخصية مستقلّة ورجل دولة، كما أنّه ابن الإدارة التونسية وذو دراية بكل دواليب الدولة نظرا لخبرته ومسيرته المتنوعة، وكفاءة تستحق الدعم والمساندة.
وبقيت الأحزاب ذات الثقل البرلماني لا تبدي اعتراضها صراحة حتى أفصح رئيس الوزراء المكلف هشام المشيشي، بعد أسبوع من المشاورات الأولية وتحسس ردود الأفعال، عن نيته تشكيل حكومة كفاءات مستقلة عن الأحزاب، وتتوفر في أعضائها "النجاعة والنزاهة بعيدا عن التجاذبات السياسية"، في محاولة لكسب التأييد الشعبي له ولحكومته ولمواقفه، واعتمادا على مساندة الرئيس له، ولتجنب الوقوع في شراك حكومة ائتلاف واسع، يصعب تجميعها بحكم التنافر الحالي، والنأي عن الوضع الذي حال دون مرور حكومة الحبيب الجملي المقترح من الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية الأخيرة، والذي أسقط حكومة الفخفاخ. فكان إعلانه ذاك الشرارة التي أعادت المشهد السياسي في البلاد إلى ما كان عليه قبل تعيينه، وعمق الجدل والانقسام داخل الطبقة السياسية التونسية، فجاهرت أحزاب السلطة برفضها لتمشي رئيس الحكومة المكلف وأعلنت تمسكها بحكومة وحدة وطنية، حكومة أحزاب الصدارة، لوفرة الكفاءات المطلوبة للمرحلة ضمن الأحزاب المتصدرة للمشهد السياسي وللحاجة الماسة للدعم السياسي للحكومة المزمع تشكيلها، نظرا لمواجهة البلاد خطر العجز عن دفع رواتب الموظفين وتوقف خدمات الماء والكهرباء، وانهيار المقدرة الشرائية للناس، مما ينذر بخطر انفجار مجتمعي غير مقدر العواقب، حتى وصل الأمر بحركة النهضة حد التهديد بإسقاط حكومة المشيشي وأبقت الأمر مواربا تحت غطاء ما ستفرزه المشاورات الداخلية لمكتبها السياسي ومجلس شوراها، وعدّ حزب التيار الديمقراطي، المشارك في الحكومة المستقيلة، حكومة الكفاءات الوطنية، هذه، محاولة للإساءة للعمل الحزبي، فيما استبعدت حركة الشعب أي إمكانية لنجاح هذه الحكومة في السياق السياسي الذي تعيشه البلاد وفي ظل هذا النظام السياسي.
وفي المقابل عبرت أحزاب المعارضة عن استبشارها بخيار المشيشي في محاولة لدعم موقفها الرافض للإسلام السياسي ومحاولة لتسجيل نقاط على الخصم التقليدي - حركة النهضة - بدعوى الحفاظ على النموذج الوطني للدولة، المعتمد منذ أكثر من 60 عاما والذي بات مهددا بشكل جدي بتنامي الوعي لدى جماهير الناس. أما باقي الأحزاب فقد رأت أن لا فرق بين خياري الحكومة الحزبية أو المستقلة ما دام الهدف المنشود هو الخروج بالبلاد من مأزقها.
في خضم هذه التجاذبات التي لا تنتهي يظل الساسة المتسلطون علينا، أسرى الأطر الإجرائية التي حبستهم فيها القوى المهيمنة على بلادنا وسائر بلاد المسلمين، فظلوا يعدّون تناحرهم وتهارشهم عملا سياسيا. فقد أشغلوا الناس بصراعاتهم العبثية عن القضايا الحقيقية ونقلوهم عبر فصول مسرحيتهم الهابطة من فصل إلى آخر مما عمق اليأس لدى عامة الناس وأفقدهم الثقة بالأحزاب وحطم آمالهم بتغيير حالهم، أمام التراجع الخطير للناتج العام والنهب المروع للمال العام وارتفاع الدين الخارجي وانهيار توازنات مالية المؤسسات العمومية وتردي الخدمات...
فقيس سعيد يدرك كل ذلك ويدرك أن التمشي المتبع في معالجة الوضع السياسي للبلاد لن يغير في هذا الوضع شيئا، ويدرك أن ما تمر به بلادنا من أحداث، يقع ضمن دائرة الصراع الحضاري العالمي بين الحضارة الغربية المهيمنة على العالم ومحاولتها إبقاء هيمنة مفهومها عن الحياة مسيطرة على كل شعوب الدنيا، وإيمانه هو بضرورة هيمنة هذا المفهوم، وبين نضال الأمة الإسلامية للانعتاق من ربقة هذه الهيمنة الغربية وسعيها لافتكاك المبادرة من العالم الغربي وإنقاذ البشرية من سطوته على العالم وقهره لشعوب الدنيا، فلا يمكن النظر إلى ما يحوكه قيس سعيد ومختلف الفرقاء على أنه صراع بين أطراف سياسية تملك أمرها وقرارها، بل ضمن ذاك الصراع الدولي وما تقرره القوى المهيمنة للأقاليم من أوضاع وللبيادق من أدوار فكان لا بد من العمل على إسقاط هذه الحكومة والدفع بها نحو الفشل إن سمح لها بالمرور عبر الموافقة البرلمانية، للدفع بالناس نحو العودة إلى أحضان الأحزاب المهيأة لتضليل الأمة عن الحلول الجذرية لأزمتها والتي تفرضها وجهة نظرها في الحياة، المنبثقة عن عقيدتها.
بقلم: الأستاذ عبد الرؤوف العامري
رأيك في الموضوع