ذكرنا في الحلقة السابقة ما يتعلق بالأمر الأول، من عوامل تفكك أمريكا وهو: التاريخ الدموي، الذي نشأ في ظله هذا الاتحاد، وتعدّد الأعراق والديانات، والنظرة العنصرية المرتبطة بذلك، وتأثيرها على عوامل التفكك والتشرذم. وفي هذه الحلقة سنتحدث عن الأمرين الثاني والثالث من عوامل تفكك هذا الاتحاد وهما:
2- التفاوت في المستوى الاقتصادي بين الولايات المتعددة، وتأثير هذا الأمر على النزعة الانفصالية.
فالجنوب الأمريكي باستثناء ولايتي فرجينيا وفلوريدا؛ هو الأكثر فقرا في الولايات الأمريكية، وينتشر هذا الفقر خاصة في مناطق الريف. وقد أظهرت بعض البيانات والإحصائيات أن نسبة 14.5% من الأمريكيين، وأكثرهم يتركز في الجنوب؛ أي ما يعادل 45.3 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر؛ البالغ 23.8 ألف دولار سنوياً؛ لأسرة مكونة من أربعة أفراد.
والحقيقة أن هذه القضية هي من القضايا الحساسة؛ التي تهدّد الاتحاد الأمريكي بالتشرذم والتفكك. وقد صدرت عدة تصريحات - على ألسنة الساسة، من حكام الولايات وغيرهم - تهدّد بالانفصال، وعدم الاستعداد لتحمل أعباء الولايات الفقيرة الأخرى؛ مثل الكثير من ولايات الجنوب. والسبب الرئيس في هذه النظرة الانفصالية؛ هو الأفكار الرأسمالية، التي تتحكم في عقلية الأمريكيين ونفسياتهم؛ وهي نظرة نفعية مصلحية غير مسئولة؛ لا تحب تحمل تبعات الآخرين، وتنظر إلى المجتمع نظرة نفعية مصلحية فردية. وهذا الأمر كما ينطبق على الفرد، فهو ينطبق على التجمعات والمدن، وحتى الولايات، وعلى عموم الشعب الأمريكي.
فقد أظهر استطلاع رأي أجرته وكالة أنباء رويترز سنة 2017: (أن 23.9% من الأمريكيين يُؤيدون أو يميلون لتأييد انفصال ولاياتهم عن الولايات المتحدة الأمريكية...)، وهناك بعض الولايات قد أسست أحزابا سياسية بالفعل تنادي بهذه الفكرة منذ سنوات طويلة؛ فقد نادى حزب استقلال ألاسكا، والذي تأسس عام 1984، بتأسيس دولة مستقلة في ولاية ألاسكا الأمريكية، ومنذ ذلك الحين وهو يعمل سياسياً وشعبياً؛ على تعزيز الحضور القومي وسط سكان الولاية، حتى كاد يشرع في عمل استفتاء شعبي رسمي عام 2006 لسكان ألاسكا، حول قضية الانفصال عن الولايات المتحدة الأمريكية. ومن هذه الولايات التي تميل إلى فكرة الانفصال وتشجعها أيضا (لويزيانا، تكساس، مونتانا، داكوتا الشمالية، إنديانا، ميسيسيبي، كنتاكي، كارولينا الشمالية، ألاباما، فلوريدا، جورجيا، نيوجيرسي، كولورادو، أريغون ونيويورك..). وفي دراسة للخبير الاقتصادي الروسي البروفيسور إيجور بانارين قال فيها: (الولايات المتحدة تتكون من ستة أجزاء كبيرة، وهناك أجزاء غنية وأخرى فقيرة؛ تسكنها تجمعات كبيرة، تعيش عالة على الأجزاء الغنية، وهناك ولاية تكساس الكبيرة الغنية؛ التي تنتشر فيها الجماعات والتنظيمات، التي تطالب وتناضل من أجل استقلالها عن الولايات المتحدة، منذ سنوات طويلة، وتفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية؛ سيفجر قضايا الاستقلال في هذه الأجزاء مرة واحدة).
وعقب فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية، تزايد بشكل لافت للنظر زخم دعوات الانفصال في كاليفورنيا، بشكل أثار انتباه الإعلام الدولي، وذلك بعد حملة شعبية سياسية، تطالب بالانفصال عن الولايات المتحدة، دشنتها حركة (نعم كاليفورنيا)؛ تحت شعار (كاليكسيت)؛ وهي كلمة مستلهمة من (بريكسيت)؛ التي تُحيل إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وتُعتبر كاليفورنيا أكثر الولايات في أمريكا سكاناً حيث يبلغ عدد سكانها 33,871,648 مليونا. وهي أغنى الولايات؛ لما تحتضنه من مراكز اقتصادية وتكنولوجية ضخمة، إذ إنها ستصبح من أغنى 10 دول عالميا؛ لو تحولت إلى دولة مستقلة منفصلة عن الولايات المتحدة. وقد كانت الولايات المتحدة قد انتزعتها بقوة من المكسيك عام 1847م، وضمتها إلى الكونفدرالية الأمريكية. فبعد فوز ترامب في الانتخابات الأخيرة وهو من الحزب الجمهوري؛ جاء في تقرير لصحيفة واشنطن بوست 2018: (بدأت حركة (نعم كاليفورنيا) بجمع توقيع 585 و407 شخص في الولاية؛ وذلك من أجل وضع سؤال: (هل ترغب بانفصال الولاية؟) وذلك على بطاقة الانتخابات. ويقول المستشار القانوني الأكاديمي تيم فولمر؛ من مدينة سان فرانسيسكو؛ الواقعة بشمال كاليفورنيا: (ما نشهده الآن هو ولادةٌ لدولةٍ جديدة... ويُمكننا قيادة ما تبقى من العالم الحرّ). وتبرّر الحركة الانفصالية حجتها بالانفصال بتبريرات عديدة؛ أبرزها الناحية الاقتصادية، وعدم استعدادها لتحمل أعباء الولايات الأخرى؛ إذ تقول هذه الحركة: (كاليفورنيا - أكثر الولايات كثافةً سكنيةً بقُرابة الـ40 مليون نسمة تقريبا - التي تساعد الولايات الأخرى مادياً في الأزمات، أصبحت مُثقلةً بأعباء نظام التجارة الوطني، وليس لها رأيٌ عادلٌ في الانتخابات الرئاسية، وهي ولايةٌ مُتنوعةٌ وتُخالف مُعظم الولايات الأخرى الرأي في قضية الهجرة، كما أنها تتفوق على الولايات الأخرى في السياسات البيئية، علاوةً على معارضتها كُليّاً لمواقف ترامب بشكلٍ رئيسي. لذلك، وفقاً لحُجَّتِهم، فإن الأوضاع مثاليةٌ لانفصال الولاية الذهبية).
هذه النظرة الانفصالية التي تتبلور في أذهان الناس وبعض الأحزاب السياسية في الولايات؛ تزداد وتتوسع بسبب ضعف الحكومة المركزية، وعدم قدرتها على معالجة الأزمات المتتالية، والتي ترتبت على الأزمة الأخيرة عام 2008، ومن هذه الأزمات: ازدياد البطالة، وارتفاع الأسعار، وتذبذبات حادة في أسعار الدولار بين ارتفاع وانخفاض، وانهيار شركات كثيرة، وازدياد المديونية العامة، والعجز في الميزان التجاري المتزايد، وازدياد الديون الداخلية والخارجية على الحكومة الفدرالية؛ كل هذه الأمور تزيد الوضع تعقيدا؛ وخاصة لدى الولايات الغنية؛ بسبب تحملها لأعباء اقتصادية جديدة، تنفق على باقي الولايات. والحكومة المركزية تقف عاجزة أمام هذه المعضلة الكبيرة، ولا تحسن أن تفعل شيئا غير جباية مزيد من الضرائب لدعم الشركات الكبرى المنهارة، ولا تحسن أن تفعل شيئا للطبقات الكادحة الفقيرة!! وزاد الطين بلة ما تسببت به أزمة كورونا من أعباء اقتصادية وسياسية جديدة زادت الشرخ اتساعا بين الولايات وبين الحكومة الفدرالية. والحقيقة أن الوضع الاقتصادي العام المنحدر والمتردي في أمريكا بشكل عام لا يخفى على الخبراء والباحثين المتابعين للسياسات الأمريكية، ولا يخفى عليهم ما يسببه الوضع الاقتصادي في أمريكا من تهديد حقيقي بانهيار النظام برمته، وليس فقط بتشرذم الولايات، حتى إن بعض الخبراء قد وضع سقفا زمنيا لذلك، منهم المفكر الفرنسي إيمانويل تود حيث كان من أوائل من تنبؤوا بانهيار الاتحاد السوفيتي، ثم تنبأ بالمصير ذاته لأمريكا سنة 1976م، وسطر هذا التوقع في كتابه الشهير "ما بعد الإمبراطورية" أي ما بعد انهيار النظام الأمريكي، يقول فيه: (إن ثمة كساداً عظيماً سيحدث مبتلعاً معه الدولة...)، وهو ما يتقاطع مع رؤية جيم ريكارد، مستشار التهديد المالي في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والذي حدد منتصف آذار/مارس 2015، موعداً للانهيار الاقتصادي؛ الذي سيطيح بأمريكا.
يتبع في الحلقة القادمة...
رأيك في الموضوع