تحدثنا في الحلقة السابقة عن مقومات الدول، وعن أسباب قوتها واستمراريتها وبقائها، وقدرتها على الصمود والتحمل أمام الهزات. وتحدثنا كذلك عن تاريخ تأسيس أمريكا، وعن بعض المراحل التاريخية؛ التي مرت بها، حتى مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وشبه التفرد والهيمنة الأمريكية.
وذكرنا كذلك أن الدول التي لا تقوم على أساس صحيح؛ فإنها لا تصمد طويلا، وتعيش خلال فترة بقائها في دوامة من الهزات والنكبات والتقلبات، ولا تهدأ ولا تستقر أبدا. وإذا انهار أساسها، وأركان بنائها وسقطت أرضا؛ فإنها لا تعود مرة أخرى إلى واقع الحياة؛ بل تندثر وتفنى أبدا.
وسنتحدث في هذه الحلقة من خلال النظرة في تاريخ نشوء أمريكا، ومن خلال واقعها الحالي؛ سياسيا واقتصاديا، وتركيبتها الاتحادية والسكانية، عن العوامل التي تضرب كيانها وتهزها، وتخلخل أركان بنائها، وتوشك أن تسقطها، وتفتتها إلى ولايات ممزقة ومتفرقة، وربما متخاصمة ومتناحرة.
أما واقع أمريكا والعوامل التي تنخر أوصالها؛ فإنها في الحقيقة اتحاد أوهى من بيت العنكبوت؛ وذلك من حيث ماضيه السياسي، والأجواء التاريخية التي نشأ في ظلها، ومن حيث الرابط الذي يربط بين ولاياته الخمسين، وطبيعة الأعراق؛ أي التركيبة الديموغرافية، والديانات المتنوعة التي تقطنه، ومن حيث النظرة المادية المتحكمة في سكان الولايات بشكل عام، والتفاوت الاقتصادي في مستوى العيش بين الولايات. وسنقف عند أبرز العوامل التي تنخر أوصال هذا الاتحاد، وتضعف الرابط الذي يجمعه، وتدفع باتجاه تفككه وسقوطه وتشرذمه عما قريب بإذنه تعالى:
- التاريخ الدموي الذي نشأ في ظله هذا الاتحاد، وتعدد الأعراق والديانات، والنظرة العنصرية المرتبطة بذلك، وتأثير ذلك على عوامل التفكك والتشرذم.
فأمريكا قامت على سرقة أموال وأملاك الغير، وقتلهم وإبادتهم وطردهم من بلادهم، وخاصة الهنود الحمر. وقامت كذلك على مرحلة من العبودية والاسترقاق. وعاشت هذه المفاهيم في أذهان الشعب الأمريكي سنوات طويلة؛ قبل مرحلة تحرر العبيد. لكن آثارها ما زالت مترسخة في نفوس وعقول الكثير من الأمريكيين؛ وهي ما تسمى بالنظرة العنصرية للسود. وعاشت أمريكا كذلك حروبا طاحنة بين الشمال والجنوب استمرت حوالي خمس سنوات، ورسخت هذه الحروب النظرة القومية والعنصرية بين الشعب الأمريكي وولايات الشمال والجنوب، أضف إلى ذلك النظرة العرقية والعنصرية ما بين السكان الأصليين من المهاجرين الأوائل، وبين المهاجرين الجدد، ولا ننسى أن أمريكا يقطنها أكثر من عرق حتى من السكان الأصليين؛ أي أنها عبارة عن خليط عرقي؛ غير متميز، ولا يمكن أن يصهرها إلا عقيدة أقوى من هذه الأعراق، إضافة إلى أن هناك ديانات متعددة حسب المناطق التي وفد منها السكان؛ ففيها النصارى واليهود، وفيها المسلمون وفيها الهندوس والسيخ، وفيها ديانات كثيرة ومتعددة؛ لذلك يبقى هذا العامل (التعدد العرقي والديني، والتنافر بين الأجناس والولايات)؛ من أقوى العوامل التي تهدد هذا الاتحاد بالتشرذم والتمزق والانحلال. وتزداد هذه النظرة كل يوم وتُسبب القلق والأرق للشعب الأمريكي برمته، يقول الباحث الأمريكي جون هول: (تكشف الأحداث أن الأمريكيين يشعرون بهشاشة مجتمعهم، كما تسوده التناقضات والاضطرابات العِرقية والأخلاقية، وسيادة العُنصرية). وهذا ما يؤكده الاعتراف الأخير الذي صرح به وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر، حيث قال: (إن التمييز العنصري ظاهرة حقيقية في الولايات المتحدة). ويشير استطلاع للرأي، أجرته وكالة رويترز مع مؤسسة أبسوس سنة 2014، (إلى أن قرابة ربع سكان الولايات المتحدة الأمريكية؛ يؤيدون فكرة الانفصال بولاياتهم عن الاتحاد الأمريكي. وبين الاستطلاع أن الجمهوريين وسكان الولايات الزراعية الغربية أكثر تقبلاً للفكرة).
لقد سببت هذه النظرة العنصرية الهابطة غير الإنسانية اضطرابات كثيرة في أمريكا؛ كان آخرها ما جرى هذا العام على إثر قتل الرجل الأسود جورج فلويد؛ في مدينة مينيابوليس؛ بطريقة لا أخلاقية، ولا إنسانية، وتدلل في الوقت نفسه على الاستهتار بأرواح السود، وعدم معاملتهم معاملة إنسانية.
وفي سنة 1965م أدى توقيف رجال شرطة بيض لشاب أسمر البشرة يدعى ماركيت فراي؛ خلال عملية تدقيق مرتبطة بحركة السير، ثم مشاجرة مع أقربائه، إلى تمرد في معزل جيتو واتس في لوس أنجلوس، وتحول هذا الحي الفقير على مدى ستة أيام، إلى ساحة قتال تقوم فيه دوريات الحرس الوطني المسلحة برشاشات ثقيلة، بدوريات في سيارات جيب، وفُرِض منع للتجول. كانت حصيلة هذه الحوادث كبيرة إذ بلغت 34 قتيلا بينما تم توقيف أربعة آلاف شخص وسجلت أضرار بعشرات الملايين من الدولارات. وفي سنة 1968م وعلى إثر اغتيال القس مارتن لوثر كينج؛ في ممفيس بولاية تينيسي في الرابع من نيسان، انفجر العنف في 125 مدينة مما أدى إلى سقوط 46 قتيلا على الأقل و2600 جريح. وفي سنة 1980م قتل خلال ثلاثة أيام من أعمال العنف 18 شخصا وجرح أكثر من 400 في حي السود ليبرتي سيتي في ميامي بولاية فلوريدا. واندلعت أعمال العنف هذه بعدما تمت في مدينة تامبا؛ تبرئة أربعة شرطيين بيض ملاحقين لقتلهم سائق دراجة نارية من أصل أفريقي، تجاوز إشارة المرور. وفي سنة 1992م أشعلت تبرئة أربعة شرطيين بيض في 29 نيسان تمت محاكمتهم لقتلهم رودني كينغ؛ سائق سيارة من أصل أفريقي في آذار 1991م، وامتدت الاضطرابات إلى سان فرانسيسكو ولاس فيغاس وأتلانتا ونيويورك؛ وأسفرت عن مقتل 59 شخصا وجرح 2328 آخرين. وفي سنة 1991م؛ ضجت الولايات المتحدة بالاحتجاجات وأعمال الشغب؛ بعد تبرئة المحاكم الأمريكية لضباط شرطة لوس أنجلوس؛ الذين أبرحوا رجلاً أسود ضرباً دون وجه حق.
والنظرة العنصرية والعرقية لا تتسبب فقط بالقتل والاعتداء بل أيضا تتسبب بالحرمان والفقر والبطالة والتهميش؛ إذ يعيش 24.7% من السود تحت خط الفقر، أي ما نسبته 12.7% على المستوى القومي الأمريكي.
ورغم وجود القوانين التي تدعي أنها قد ألغت العنصرية في أمريكا وحررت العبيد؛ إلا أن هناك نظرة الفصل والتمييز موجودة حتى في القوانين الأمريكية، وترسخ هذه النظرة في المجتمع. يقول الكاتب المصري رضا هلال؛ في كتابه "تفكيك أمريكا"؛ وكان يقيم في أمريكا: (إن التعديلات الدستورية وأحكام المحكمة العليا في أمريكا استهدفت المساواة بين السود والبيض، لكن الهدف ظل هو المساواة مع الفصل، ما ظهر بوضوح في أحكام المحكمة العليا الأمريكية عام 1896م، التي حكمت بأن السود والبيض ينبغي أن يكونوا منفصلين ولكن متساوين، وقد استمر الأمر على هذا النحو حتى عام 1954م الذي شهد إلغاء التمييز العنصري في المدارس... لم ينهِ قرار المحكمة العليا بإلغاء الفصل العنصري في المدارس، مظاهر التمييز العنصري الأخرى السائدة في كل مكان، إذ ظل الفصل قائماً في الحافلات والمطاعم والحانات، وفي هذا السياق، حدثت الكثير من المواقف المذلة تعرض لها المواطنون السود؛ وعلى إثرها انطلقت احتجاجات حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كينج، التي ظلت تتصاعد حتى أدت إلى صدور قانون الحقوق المدنية الأمريكية في عام 1968م، وهو العام نفسه الذي شهد مصرع كينج إثر حادث اغتيال...).
وظلت هذه النظرة في أمريكا؛ رغم وجود القوانين العديدة والمؤسسات الكثيرة هنا وهناك؛ التي تدعو إلى المساواة. وظلت آثارها تضرب بعمق في تركيبة الشعب الأمريكي الهشة، وتتسبب بين الفينة والأخرى بهزات وزلازل؛ تخلخل الرابط الذي يربط بين هذه الولايات، وحتى بين أوصال الولاية الواحدة، بل المدينة الواحدة والحي الواحد.. وهذه النظرة عامل قوي في زعزعة الاستقرار، وضرب الرابط السياسي والهيكلي؛ الذي يربط المجتمع في أمريكا.
- التفاوت في المستوى الاقتصادي بين الولايات، وتأثير هذا الأمر على النزعة الانفصالية.
يتبع في الحلقة القادمة..
رأيك في الموضوع