تتعرض أمريكا منذ نشأتها لهزات وأزمات، متلاحقة ومتتابعة تهز أركانها وتنخر قواعدها وأعمدتها وأوصالها؛ في كل مناحي الحياة؛ الفكرية والسياسية والاقتصادية، داخليا وخارجيا، وتدفعها دفعا سريعا وقويا نحو الهاوية المظلمة السحيقة، بل نحو التفكك والتشرذم والزوال. وقبل أن نتحدث عن بعض هذه الهزات، وعن خصوصية أمريكا بالذات في هذا المجال، نريد أن نقف قليلا عند موضوع عوامل قوة الدول، واستمرارية بقائها، ووحدتها وقوتها بشكل عام، وعند عوامل تفتتها، وزوال قوتها وانهدامها.
فأبرز الأمور في قوة الدول واستمراريتها؛ هو قوة مبدئها المنظم لكافة شئونها، وطبيعة وحيوية الشعب الذي يسكن هذا الكيان. فليست كل الشعوب صاحبة المبدأ الواحد؛ تتساوى في قوتها، ولا في مدة استمراريتها وبقائها، فالشعب الإنجليزي مثلا يختلف عن غيره من شعوب أوروبا؛ مع أنها تدين للمبدأ نفسه. ومن عوامل قوة الدول أيضا قوة اقتصادها، وتعدد مصادر الثروة فيها. ومنها كذلك قدرة هذه الدول على حماية نفسها من العدوان الخارجي، أو من المخاطر الداخلية؛ التي تهدد وحدتها. ومنها كذلك إيمان هذا الشعب داخل الدولة الواحدة بفكره، واستعداده للتضحية في سبيل الدفاع عن كيانه بكل شيء، وإيمانه أيضا بأن ما يدين به، ويحمله هو الأفضل والأقوى والأصلح لحياة البشر.
فالناظر في تاريخ الدول السابقة على مدار التاريخ الإنساني؛ يرى أن وجه البسيطة قد تقلبت عليه دول وكيانات سياسية عدة؛ حتى في البقعة الواحدة. وأن الدول التي تبوأت مقعد قيادة العالم، قد تنافست وتدافعت على هذا المكان، وأنها كانت تتطاحن، ويزيل بعضها بعضا من الوجود. ويرى كذلك أن الدول التي كانت تنهدم وتزول لا ترجع مرة أخرى إلى الحلبة السياسية؛ باستثناء الدولة الإسلامية حيث كانت لها خصوصية في هذه الناحية، تتميز بها على كل شعوب الأرض.
ويمكن القول إن جميع الدول بلا استثناء، خلا الدولة الإسلامية، فإنها معرضة للتفكك والزوال؛ وهي تطبق مبدأها على أكمل وجه، وأنها إذا زالت فإنها لا تعود أبدا مرة أخرى. والدليل على هذا الأمر: هو التاريخ الإنساني الشاهد على الحاضر القريب، والماضي البعيد؛ فأين هي حضارة الرومان واليونان والفراعنة، وأين هي حضارة الكنعانيين والأشوريين واليبوسيين. بل أين حضارة فارس والروم؟! لقد زالت جميعا بلا رجعة، قال تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً﴾ [مريم: 19]، وقال أيضا: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ﴾ [السجدة: 26].
وهناك خصوصية أخرى؛ تتعلق بحضارة الإسلام؛ وهي أن ضعف دولتها وقوتها؛ يعود إلى مدى تمسك أصحابها بها. ولا يتعلق بالفكر نفسه؛ لأن الفكر في حضارة الإسلام هو فكر رباني صحيح؛ قائم على أساس صحيح، ويرتبط في كل جزئية من جزئياته بعقيدته التي آمنت الشعوب بها إيمانا قطعيا. وفي الوقت نفسه فإن الإسلام هو الفكر الوحيد على وجه الأرض المبني على العقل، ويوافق الفطرة الإنسانية؛ أي يقنع كل عقل إنساني، ويشبع وينظم ما فطر عليه الإنسان من حاجات عضوية وغرائز بشكل شامل كامل مستقيم؛ لذلك فإن الدولة الإسلامية في تاريخها الطويل كانت تتجدد بتجدد تمسكها بفكرها المستقيم، تماما كما حصل في عهد العباسيين، والأندلس، وفي خراسان وغيرها... وكما هو حاصل اليوم؛ في مطالبة الشعوب الإسلامية بعودة هذه الدولة؛ رغم مرور ما يقرب المئة عام على هدمها.
هذا ما يتعلق بالدول وعوامل بقائها واستمراريتها بشكل عام. أما ما يتعلق بأمريكا بشكل خاص؛ فلا بد أن ننظر أولا قبل الحديث عن عوامل تفككها في تاريخ هذا الكيان؛ من حيث بداية نشوئه، وكيف وصل إلى هذه الدرجة من القوة والغطرسة والعنجهية. وما هو الفكر الذي يقوم عليه هذا الكيان؟ وما هي طبيعة الشعوب المنضوية تحت منظومته السياسية؟
فأمريكا قامت كمستعمرات أوروبية بعد ما يسمى باكتشافها سنة 1492م؛ حيث كان يعيش في هذه البقعة من الأرض الهنود الحمر؛ وهم سكانها الأصليون، وسميت بهذا الاسم: تخليدا لاسم أحد البحارة الأوائل الذين وصلوا أمريكا بعد كولومبس؛ وهو البحار البرتغالي أمريجو فيرشبوسي. وأول من أسس مستعمرات فيها؛ هم الهولنديون في الجزء الشرقي من أمريكا الشمالية، وكان هؤلاء السكان على شكل صيادين ومزارعين، ثم ازداد الوافدون شيئا فشيئا بعد اكتشافها، وأقاموا بعض المدن هناك. ثم أسس الإسبان مدينة في فلوريدا سنة 1513م. ثم أسس الإنجليز مدينة فرجينيا سنة 1607م، وتتابعت بعد ذلك الهجرة إليها من إنجلترا، وازدادت بسبب الحروب الداخلية في إنجلترا بين الكاثوليك والأباطرة الحاكمين في القرن السادس عشر الميلادي. وظل السكان الجدد من الإنجليز في أمريكا تبعا لبريطانيا؛ ويدفعون لها الضرائب؛ حث اعتُبروا ضمن المستعمرات الجديدة حتى سنة 1773م عندما قامت أول ثورة ضد هذه التبعية البريطانية. استمرت احتجاجات المستوطنين الجدد وأغلبهم من البريطانيين في عدة مدن ضد الإجحاف البريطاني في فرض الضرائب. ووصلت الأمور إلى المواجهة العسكرية بين بريطانيا والسكان الجدد واستمرت حوالي سبع سنوات متتابعة؛ توّجت في نهاية المطاف بتشكيل مجلس يضم 12 مستعمرة، وظلت الحروب حتى سنة 1781م؛ حيث انتصر الأمريكان على بريطانيا، واضطروها لتوقيع معاهدة باريس سنة 1783م، وكان هذا هو بداية تشكل الولايات المتحدة.. وقد دخلت الولايات المتحدة الجديدة سنة 1788م عهدا جديدا؛ حيث وقعت كافة الولايات على الدستور الجديد، وسمي دستور الاستقلال.
انتابت أمريكا مرحلة جديدة من الحروب الأهلية سنة 1861م؛ وهي ما تعرف بحرب الشمال والجنوب؛ حيث انفصلت عدة ولايات من الجنوب، وشكلت حلفاً فيما بينها ضد الشمال، وانتهت هذه الحرب سنة 1865م بإعلان (لينكولن)؛ المناهض للعبودية، وهو ما يعرف بمحرر الرقيق. وقد ذهب ضحية هذه الحرب حسب بعض الإحصاءات 620,000 جندي من كلا الطرفين.
وفي فترة الصراع الأوروبي الأوروبي في الحرب العالمية الثانية سنة (1939 - 1945)؛ الذي حصل بين قوات الحلفاء من جهة؛ في مقدمتها فرنسا وبولندا وبريطانيا، ودول الكومنولث البريطاني (أستراليا، كندا، الهند، نيوزيلندا وجنوب أفريقيا)، وبين دول المحور من جهة أخرى على رأسها (ألمانيا وإيطاليا واليابان). التزمت أمريكا الحياد العسكري حتى سنة 1941م؛ وكانت تدعم الدول المناهضة لألمانيا بالسلاح والمال بصورة غير مباشرة. وعندما هاجم الجيش الياباني ميناء هاربر؛ دخلت أمريكا الحرب بصورة مباشرة وظلت حتى استسلام ألمانيا واليابان. وقد احتكرت أمريكا في بداية الأمر السلاح النووي لمدة عشر سنوات بعد الحرب مما جعلها القوة الأولى في العالم بلا منازع.
لقد كانت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ فترة يطلق عليها الحرب الباردة بين العملاقين أمريكا والاتحاد السوفيتي. وبقيت أوروبا تحت جناح أمريكا؛ بسبب التهديدات الروسية بغزو أوروبا. وظل هذا الواقع بين مد وجزر حتى سقوط الاتحاد السوفيتي سنة 1990م، وبسقوطه حدثت مرحلة جديدة من السياسة الدولية؛ هي مرحلة شبه التفرد والهيمنة الأمريكية في الصراع الدولي.
يتبع...
رأيك في الموضوع