تحدثنا في الجزء السابق عن أزمة وجودية وخطيرة كادت أن تسقط النظام في الأردن، وانطلقت هذه الأزمة من مدينة معان وامتدت إلى مدن الجنوب والوسط "وقد واجهت قوات الأمن بداية التظاهرة بالقنابل المسيّلة للدموع والرصاص الحي، وبعد يومين من الاعتداء على التظاهرة، أصبح الأمن عاجزاً عن السيطرة على المدينة التي ثار جميع سكانها، وردّوا على الرصاص بالرصاص، وأحرقوا الإطارات في الشوارع، وكتبوا على الجدران: يسقط الرفاعي".
وعندما عجزت القوات الأمنية عن السيطرة على المدينة، تمّت الاستعانة بالجيش الذي طوق معان في 21 نيسان/أبريل، وأعلن حظر التجول، وشنّ حملة اعتقالات واسعة، طالت حوالي 600 شخص، وُزّعوا على معتقلات خارج المدينة".
صحيح أن الأزمة كانت لأسباب داخلية في المظهر حيث تتالت الضغوطات على الاقتصاد الأردني مع نهاية عقد الثمانينات، فقد فاقت نسبة الدين الخارجي (الـ200% من الناتج المحلي الإجمالي) وعجز الحساب الجاري إلى (14% من الناتج) وعجز الموازنة العامة إلى (23% من الناتج) بالإضافة إلى أزمة بنك البتراء.
ولكن مما يجب ألا يغيب عن البال أن سبب الأزمة هو إجراءات وإملاءات صندوق النقد الدولي بدوافع سياسية أمريكية بعد ربط صندوق النقد الدولي بالسياسة الخارجية الأمريكية.
يقول عدنان أبو عودة، وللعلم هو أحد أركان الدولة العميقة، (وفي 16 نيسان/أبريل 1989 أعلنت الحكومة زيادة في أسعار الوقود وبعض المواد الأخرى. وحدث أن جلالة المرحوم بعد يوم من هذا القرار بدأ بزيارة رسمية للولايات المتحدة كانت مقررة سابقاً... وكانت البرقيات تصل باستمرار لجلالة الملك فتنبئه على تطورات الاحتجاجات وما رافقها من حوادث. وبانتشارها وتطورات التعبير عنها بأعمال التخريب، بدأ القلق يدبّ في نفس جلالته، وتخيّلت وكنت أحد أعضاء الوفد المرافق أن جلالته يمزقه من الداخل خياران متناقضان:
1- هل يقطع الزيارة ويعود لإنقاذ الوضع قبل تفاقمه؟
2- أو يواصل برنامج الزيارة؟ لكنه اختار الاستمرار في الزيارة. ومن معرفتي بشخص جلالته كنت متأكداً أن جلالته كان مطمئنا على الأردن والنظام ولكنه خشي أنه لو قطع الزيارة فإنه سيعطي الحليف الأمريكي صورة خاطئة عن النظام بأنه ضعيف، وهي صورة من شأنها أن تفسد نظرة الحليف للأردن، وربما تؤثر سلباً في سياسته نحوه مستقبلاً). انتهى
والحقيقة الأكيدة أن الخوف على النظام بلغ ذروته وليس كما يقول أبو عودة، لكنه أراد أن يبيّن للولايات المتحدة أن الأزمة تحت السيطرة ولا تشغل النظام وأنه قادر على التعامل معها، وهذه رسالة سياسية من الإنجليز للولايات المتحدة لعلمها وتيقنها أن أداتها صندوق النقد الدولي فعل ما فعل ليس لأسباب اقتصادية وإنما لأسباب ودوافع سياسية. هذا والله أعلم هو سبب عدم قطع الزيارة، ولكن الإنجليز أدركوا أن المعالجة الأمنية ستزيد من النقمة خاصة بعد أن هدد النظام مدينة معان بالضرب الكيماوي كما فعلت بعض أنظمة الجوار ولم تهدأ الأمور فكان لا بد من الحل السياسي للأزمة بالالتفاف عليها فكانت الإجراءات السياسية التالية:
1- استقالت الحكومة بعد 10 أيام.
2- تمّ التراجع عن قراراتها.
3- ألغي قانون الطوارئ الذي كان يحكم البلاد منذ نكسة حزيران/يونيو 1967.
4- تمّت الدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 1989.
5- وضع ميثاق وطني يلتزم به الجميع وشكلت لجنة وطنية برئاسة أحمد عبيدات (مدير المخابرات العامة برتبة لواء منذ 1974 حتى عام 1982، في واحدة من أكثر الفترات الحساسة في تاريخ المملكة الأردنية وأحد روافع النظام في الأزمات السياسية الخطيرة ولاعب دور المعارضة في الأزمات لعدم وجود قيادة حقيقية خارجة عن إرادة النظام لأي تحرك داخلي).
وكانت اللجنة من ستين عضواً، وفي 9/4/1990م صدرت الإرادة الملكية لصياغة الميثاق الوطني، وأراد النظام آنذاك إشراك الجميع في العملية السياسية ليحتوي الأزمة السياسية حتى إنه كانت لديه رغبة بوجود حزب التحرير في العملية السياسية حيث أرسل بعض أزلامه ليعرف موقف الحزب من العملية السياسية والدخول فيها وليضمن الجميع تحت عباءته. فدخل الجميع تحت عباءته، إلا حزب التحرير، سواء أكانوا أحزابا يسارية وقومية أو إسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين الذين كان لهم الدور الأكبر في احتواء الداخل وكان لهم دور التدخل السريع بدخول العملية السياسية وأخذ عدد من المقاعد مسبقا بالاتفاق مع الدكتور إسحاق الفرحان الذي اعترف بهذا الأمر وعدد المقاعد المقررة لهم، وعملت اللجنة على مدى تسعة شهور مُنهيةً صياغة الوثيقة التي فتحت الباب أمام العمل الحزبي تحت سقف النظام بوجود قانون أحزاب يضمن عدم خروج أي حزب عن الخط لأنه من الممكن دخول أحزاب لا تعطي الولاء للنظام فضمن عدم خروج أحد عن الخط بقانون سياسي لمرحلة انتقالية حساسة، فكان هذا القانون الذي لا زال عقبة كبيرة أمام أي تحرك حقيقي من الأمة.
هذه أبرز إجراءات النظام في معالجة آثار هبة نيسان...
بقلم: الأستاذ المعتصم بالله (أبو دجانة)
رأيك في الموضوع