بعد فشل محاولات السلطة في استعادة ثقة الناس وإرجاع المتظاهرين إلى بيوتهم والتي بدأت بورقة إصلاحية ثم استقالة الحكومة ثم فشل شد عصب الشارع الموالي للسلطة وإيجاد شارع مقابل شارع، ظهر نشاط الدول الاستعمارية المعنية في الملف اللبناني؛ فأرسلت فرنسا مدير دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الخارجية كريستوف فارنو واجتمع مع أركان السلطة الفاقدة للشرعية.
ثم كان اجتماع باريس بين المبعوث الفرنسي فارنو ومساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر ومديرة الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية ستيفاني الكاق. وما تم تسريبه عن اجتماع باريس أن فرنسا تريد حكومة يمكن التعامل معها وتحظى بثقة أهل لبنان وأنها تفضل حكومة أخصائيين مطعمة بسياسيين أو ما يسمى بحكومة "تكنوسياسية". وموقف أمريكا وبريطانيا تمحور حول تجنيب انهيار لبنان ماليا وبحثا في سبل إدخال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لدعم السلطة مالياً.
وفي يوم ٢٢ تشرين الثاني، في ذكرى ما يسمى بالاستقلال، أرسل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برقية تهنئة لرئيس الجمهورية ميشال عون وأعلن ترامب عن "استعداد الولايات المتحدة الأمريكية، للعمل مع حكومة لبنانية جديدة تستجيب لحاجات اللبنانيين إلى بناء بلد مستقر مزدهر مستقل وآمن" ما يعني أن الإدارة الأمريكية الحالية ما زالت تقف مع عون بالرغم من انعدام ثقة أهل البلد بالطقم السياسي كله.
ولكن اللافت للنظر كان حديث السفير الأمريكي السابق في لبنان جيفري فيلتمان أمام اللجنة الفرعية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا والإرهاب الدولي، التابعة للجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي حيث قال مسألتين مهمتين:
الأولى، فيما يتعلق بسلاح حزب إيران اللبناني حيث قال: "قد يتساءل البعض في واشنطن عما إذا كان على القوات المسلحة اللبنانية الآن الاستعداد لمواجهة الحزب (حزب إيران) ديناميكياً ونزع سلاحه بالقوة. ستكون هذه التساؤلات وصفة للحرب الأهلية، تميل إيران وعملاؤها إلى جانب تنظيم القاعدة إلى الازدهار في حالات الحرب الأهلية". ما يعني وحسب كلام فيلتمان أن نزع سلاح حزب إيران أمر مستبعد أمريكياً.
الثانية، فيما يتعلق بالحلول المطروحة حيث قال: "قدرتنا على التدخل وحشد الدعم المالي والاقتصادي تعتمد على قرارات اللبنانيين أنفسهم، بما في ذلك تكوين الحكومة المقبلة وسياساتها. نعم، نحن على استعداد للوقوف إلى جانب لبنان، ولكن إذا كان يرغب اللبنانيون فعلاً في المضي قدماً. إذا عالجت الحكومة اللبنانية مسائل الحكم والمساءلة، فيمكن للمجتمع الدولي الاستجابة؛ أما إذا عادت الحكومة إلى العمل كالمعتاد، فلن نتمكن من حشد الدعم لمنع الانهيار"، وهنا يكرر فيلتمان الموقف الأمريكي الداعم للسلطة الحالية. وأيضاً لمح فيلتمان لموضوع الخصخصة لقطاعات حكومية ما يُعد تكراراً لما أعلنه رئيس الوزراء المستقيل سعد الحريري في الورقة الإصلاحية التي أسقطها الشارع.
بعد كلام فيلتمان ردت بعض ساحات الحراك بحرق العلم الأمريكي رفضا للتدخل الخارجي وكانت هناك تصريحات لوجوه داخل الحراك رافضة لكلام فيلتمان ومعتبرة كلامه يصب في مصلحة إيران وحزبها. استدعى ذلك هجوماً على شخص فيلتمان. وفي الجهة المقابلة حشد حزب إيران مظاهرة مقابل السفارة الأمريكية في عوكر محاولا استثمار هجوم فيلتمان على الحزب لتصوير الحراك على أنه تابع لأمريكا.
وفي ٢٤ تشرين الثاني أعلنت بريطانيا أنها سترسل موفداً عنها لتسريع تشكيل الحكومة كما أعلنت.
وفي لبنان ما زالت الطبقة السياسية تمارس سياسة التسويف والمماطلة عبر تراشق التهم فيما بينهم بخصوص تأخير تشكيل الحكومة وفي ظل إعلان البنوك تطبيق قيود على السحوبات المالية والحد من سحب الدولار.
بالمختصر أمريكا تتعاطى مع حراك لبنان بروية نظرا لمدى تعقيد المشهد اللبناني؛ إن كان في حجم الملفات العالقة فيه أو ملفات فساد السلطة على مدى عقود، أو بسبب تكوينه الطائفي وصعوبة التلاعب بنظام المحاصصة الطائفية التي ثبتته أمريكا وعدلت فيه بعد ١٥ سنة حرب عبر ما يسمى باتفاق الطائف.
وأمريكا وحسب تحركاتها ما زالت متمسكة بالنظام اللبناني وأركان السلطة الحالية؛ فهي التي دفعت بقانون انتخابي يعطي من يدينون الولاء لها بأكثرية نيابية كاسحة. وهي من دعمت السلطة الحالية قبل الانتخابات النيابية الأخيرة بشهر عبر مؤتمر "سيدر"؛ مما يعني أن الحراك الحاصل في لبنان والموجه ضد أركان السلطة هو بالمحصلة سيصب ضد أمريكا. وأمريكا بخطواتها أيضاً تعتبر الحراك عدواً لها.
بقلم: الأستاذ عبد اللطيف داعوق
نائب رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية لبنان
رأيك في الموضوع