تتواصل فعاليات المتظاهرين، وتتسع دائرتها، لليوم العاشر على التوالي منذ 25/10/2019 في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، إذ بات يرفدها يوميا شرائح إضافية من المجتمع كطلبة المدارس والجامعات، ونقابات المعلمين والمحامين، وصحفيون وناشطون وبعض العشائر وكوادر صحية لتولي علاج الجرحى والمصابين. ومما يعزز استمرار الاعتصام، المد اللوجستي من الأهالي بتوفير الطعام والمستلزمات الصحية والدواء. والكل يعمل بروح الفريق الواحد، الأمر الذي تلاشت معه النزعة الطائفية والعنصرية، بل رفعت فعلا شعارات تنعى الطائفية. وبات المعتصمون سادة الموقف، وكلهم يصرح بوجوب إزاحة الحكومة الفاسدة وأحزابها ومليشياتها، فضلا عن قوانينها ورموزها. ولم يعد يقنعها ترقيعات أو وعود يراد بها المماطلة وإلهاء الجماهير الغاضبة، وأصبحت الحكومة محشورة في منطقتها الخضراء (الغبراء) يخشى أزلامها أن يتخطفهم المحتجون.
وفي سابقة لم نشهد مثلها من قبل، ألا وهي قيام لفيف من طلبة الحوزات الدينية في النجف وكربلاء بالانضمام - بعد طول صمت - إلى الجماهير المحتجة، رافعة شعارات تندد بتدخل إيران في الشأن العراقي، بل وتحذرها مغبة ذلك، وتطالبها بالكف عن تلك الممارسات، مع لافتات تصف قاسم سليماني بالمجرم والقاتل، وقام آخرون بنزع صور خميني وأحرقوها.
وفي ظل هذه الأجواء، أصيب قادة الأحزاب والكتل السياسية بالصدمة جراء الطوفان الجماهيري، ولسان حالهم يقول: ﴿فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾؟ وتجرؤوا على رئيس الوزراء مهددين إياه بسحب الثقة عنه، ثم جاءت دعوة رئيس الجمهورية برهم صالح وهو من أكابر مجرميها، لإعادة النظر بقانون الانتخابات، وإنشاء هيئة مستقلة لها، وتعديل الدستور بما يخدم مصالح الشعب ويرفع الحيف عنهم، وإعلان موافقة رئيس الوزراء عبد المهدي على الاستقالة.
والحال أن الجميع يشعر بالقلق و﴿تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ جراء ما قد يلحقهم من رفع الحصانة البرلمانية وإحالتهم إلى المحاكم، وما يتبع ذلك من إجراءات. فنراهم يرفعون قدما ويضعون أخرى، ولم ينفع الصدر إخافةُ العراقيين وتهديدهم بمصير كمصير سوريا واليمن. وهو عين ما نطق به السفيه خامنئي من أن أمريكا - وهو عبد وضيع لها - وكيان يهود وراء انتفاضة الشعب العراقي واللبناني. فلا عبد المهدي استقال، لاشتراطه أن يقدم البديل المناسب للحيلولة، بزعمه دون تعرض البلد إلى فراغ دستوري، أو أنه خائف مما يترتب على استقالته من فقدان الحصانة، وتعريضه للمساءلة القانونية ولو بعد حين. كما أن منافسيه الصدر والعامري لم يقدموا اسما بديلا لم يتسخ بأوضار الخيانة وإيذاء الشعب. وما يدفع هؤلاء وأولئك إقداما أو إحجاما عن اتخاذ القرارات إنما هو المحاصصة وحساب المكاسب.
ولنأت الآن إلى ما أعلنه الرئيس برهم صالح من انحيازه للمحتجين، وأنه معهم في رفع الحيف عنهم، ومحاربة الفساد، وأن القمع واستخدام القوة ضدهم مرفوض، وأن الحل في الإصلاح، وضرورة جعل السلاح بيد الدولة. وأنه تم إحالة ملفات الفساد إلى القضاء للبت فيها، والمباشرة في إعداد قانون جديد ومنصف للانتخابات، والموافقة منه شخصيا على إجراء انتخابات مبكرة، مع الإعلان عن موافقة رئيس الوزراء عبد المهدي المشروطة على الاستقالة. (العراقية). لنأتي إلى هذه الوعود - وما أجملها - ونسأل: هل يمكن فعلا تحقيقها؟ وأي نزاهة تطبع العاملين من أرباب القانون والسياسة على تلك الملفات الخطيرة ليرضوا المحتجين، ويتساموا فوق العنصر أو المذهب والحزب والعشيرة؟! ثم ألم تمض على الناس 16 سنة مُرة وعصيبة؟ فأين كان هذا المتفيقه الحريص على أبناء شعبه وإخوته، وقد تقلد فيما سبق مناصب عدة مع كتلته العنصرية التي رفضت اعتبار العراق (عربيا) إبان إعداد دستور اليهودي نوح فيلدمان؟! هل استيقظوا بعد سبات؟! حقا لقد سئم المسلمون وعود حكامهم العملاء الطواغيت ولم يتحقق منها شيء، بل ساموا الأمة سوء العذاب قهرا وسجنا وإفقارا وتمكينا للكافرين من رقاب أبنائها.
إن المتابع للحراك الشعبي المتدفق، وهو يتسع كل يوم أضعافا مضاعفة، حتى ليكاد يشمل كل طبقات الشعب. إذ الظلم قد لف الجميع بظلاله الحالكة التي طال أمد انقشاعها. فهل بعد هذا ستنطلي أكاذيب المتسلطين على رقابهم؟ وهل سيتسع النظام الديمقراطي الفاشل لإشباع جوعات الناس، ورفع الظلم عنهم، وتحقيق الأمن والكرامة الإنسانية؟! بالطبع لا، لأن ذلك النظام المشؤوم، الذي فرض على أمة الإسلام بالحديد والنار، لم يحقق أهدافه في عقر داره بلاد الكفر. فالنتيجة محسومة إذن لصالح الشعب، وسيكشف زيف وعودهم ليعود للاحتجاج مجددا حتى تتحقق كامل مطالبه. ولن تنهي استقالة فلان أو علان أزمة العراق ولا تحل مشاكل أهله. ومعلوم أن ما أصاب العراق من خسف وبطش ومظالم سببه أمريكا وذراعها اليمنى إيران بعد تمكينها من مقدراته ومقاليد الحكم فيه. ولم يسقط الضحايا والجرحى إلا بضوء أخضر من أمريكا إذ هي الآمر الناهي، ولن تتورع عن جرائمها طالما تعلق الأمر بالمسلمين، ولجس نبض الشارع بعدها، هل تنسحب الجماهير ويلزموا بيوتهم كما سبق في الأعوام القريبة الماضية. لكن خاب فألهم بإذن الله تعالى، ولا بد للظالم من مصير يناسب جرمه واستعلاءه.. كما أخبر الصادق المصدوق e: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾».
وأخيرا، فإن الخروج من هذه الأزمة لا يبدو قريبا، فجعبة أمريكا ملأى بأقذر الخيارات، وكأنها لا تزال تراهن على ترهيب الجماهير الغاضبة بالقتل تارة - كما أعلنت مصادر أمنية عن سقوط ما لا يقل عن 63 قتيلا، وآلاف الجرحى حصيلة احتجاجات العراق خلال يومين. (DW)، ثم أعلن - لحظة كتابة هذه السطور - عن خطف ناشطين أحدهما: مدير مدرسة، ألقي على قارعة الطريق، بعد تعرضه إلى تعذيب جسدي، نقل على أثرها إلى المستشفى، وثانيهما: الناشطة صبا المهداوي بعد إكمالها عمل إسعاف الجرحى ليلة أمس، وناشدت عائلتها الحكومة لمعرفة مصيرها.. ويبدو أن شياطين إيران ومن ورائها أمريكا، ستشرعان بأسلوب جديد (الخطف) والإرهاب لحمل الناس على لزوم بيوتهم وإخماد جذوة الثورة، رد الله كيد الظالمين في نحورهم، وخيب آمالهم. نسأل الله عز وجل أن يعجل بنصره ويمكن لعباده الصالحين في الأرض... ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.
بقلم: الأستاذ عبد الرحمن الواثق
رأيك في الموضوع