في الوقت الذي انتفضت فيه معظم شعوب الدول العربية على المنظومة الاستعمارية، ها قد جاء دور لبنان. فلقد ثار أهله ضد نظام المحاصصة الطائفية الغارق بالفساد ونهب الثروات.
إنها ثورة عفوية آن أوانها. ثورة تخطت حواجز الطائفية والمذهبية فتكاتفت المناطق المحسوبة على المسلمين السنة مع تلك المحسوبة على المسلمين الشيعة والمناطق المحسوبة على النصارى مع تلك المحسوبة على الدروز. وجميعهم ضد السلطة الفاسدة التي نهبت أموالهم وأساءت معاملتهم طوال عقود من الزمن.
إن أسباب الحراك الحاصل في لبنان تعود لنظام وعقلية حكمت البلد منذ سنة ١٩٩٠. حكام هم أساساً زعماء مليشيات تسلطوا على الناس وحصروا رعاية الشؤون بمصالحهم فقط وحرموا الناس من الرعاية والحقوق.
وفي لمحة تاريخية سريعة، نذكر أن لبنان كيان طائفي صنعه الاستعمار الفرنسي بعد سلخه عن محيطه الشامي.
وبعد الحرب الأهلية جاءت أمريكا وعدّلت في نظامه بما يناسب مصالحها وسلمت البلد للنظام السوري حتى سنة ٢٠٠٥ حيث تم إخراجه بقوة الشارع، ثم حصل انقسام داخلي انتهى سنة ٢٠١٦ من خلال ما سمي بـ"التسوية السياسية" التي ما زالت قائمة حتى الآن.
إنأمريكا تتحكم بالبلد بطوله وعرضه وبيدها كافة المرافق الاقتصادية والأمنية. فهي من أتت برياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان وجددت له رغم معارضة شكلية من بعض الأطراف الداخلية، وهي من فرضت الجنرال جوزيف عون قائدا للجيش. وأما الأطراف السياسية الأساسية في الحكم فجميعهم يكنون بالولاء لأمريكا إن كان بشكل مباشر أو عن طريق دول إقليمية. وأما الأحزاب التي لا تدين بالولاء لأمريكا فمنها من انسحب من الحكومة بداية الحراك ومنها من بقي داخلها بهدف التشويش على قراراتها.
أما النظام الاقتصادي في لبنان فهو نظام رأسمالي وعملته الورقية غير مغطاة بالذهب. الدين العام وصل إلى ٨٥ مليار دولار ويوازي ١٥٠٪ من الناتج المحلي. الزيادة الربوية السنوية على الدين العام بلغت ٦ مليار دولار. والعجز التجاري سجل رقماقياسيا في سنة ٢٠١٨ حيث وصل إلى ١٧ مليار دولار وفي السنة ذاتها سجل ميزان المدفوعات عجزا قياسياً بلغ 4.8 مليار دولار. وبالرغم من هذه الأرقام الصادمة إلاأن الحكومة اللبنانية برئاسة سعد الحريري لم تغير من نهجها بل أقرت موازنة سنة ٢٠١٩ بلغت فيها الزيادات الربوية للدين العام ٣٧٪ من الموازنة ككل. وكانت قبل ذلك ولأهداف انتخابية وظفت الأحزاب الآلاف في القطاع العام وقامت بإقرار سلسلة الرتب والرواتب التي رفعت من قيمة رواتب موظفي القطاع العام. كل ذلك مع إبقاء سياسات الصفقات المشبوهة ونهب الثروات والاتكال على الدعم المالي الخارجي والاستدانة وعدم اتباع سياسة اقتصادية إنتاجية. ومنذ آب ٢٠١٩ توقف المصرف المركزي عن دعم سعر صرف الليرة مقابل الدولار مما أدى إلى سلسلة من المشاكل المالية في عدة قطاعات خاصة.
وأما عن حاجات الناس؛ فالقطاع الكهربائي في عجز مالي منذ سنة ١٩٩٢ في ظل استمرار انقطاع التيار الكهربائي في معظم الأوقات. والنتيجة هي انتشار مولدات كهربائية لسد الحاجة. فأصبح الناس يدفعون فاتورتين للكهرباء؛ الأولى للدولة والثانية لأصحاب المولدات. والأمر نفسه يحصل بمصلحة مياه الشفة فالناس تدفع فاتورتين؛ الأولى للدولة والثانية لأصحاب خزانات المياه المتنقلة. ومع ارتفاع أقساط المدارس الخاصة بسبب إقرار سلسلة الرتب والرواتب اضطر الناس بنسبة ١٨٪ إلى نقل أولادهم إلى المدارس الرسمية التي تعاني من سوء الرعاية مثلها مثل أي مرفق للدولة. علماً أن الأكثرية الكاسحة من الناس كانت تضع أولادها في مدراس خاصة. وأما النفايات فالدولة عجزت عن معالجة هذا الملف أيضاً بالرغم من حصول حراك سنة ٢٠١٥ بسبب النفايات وكادت الأمور أن تؤدي إلى انفجار شامل.
وفي كل هذه الفترة كانت هناك إشارات واضحة للسلطة أن المزاج العام لدى الناس وصل إلى حد الانفجار. ففي سنة ٢٠١٥ كان هناك حراك واسع ضد السلطة بخصوص النفايات. وفي الانتخابات البلدية الأخيرة كادت لائحة السلطة أن تسقط في العاصمة بيروت وسقطت لائحتها بالفعل في مدينة طرابلس. وفي الانتخابات النيابية الأخيرة ورغم الدعم الدولي لأزلام السلطة في مؤتمر "سيدر"، كانت نسبة المشاركة ٤٦٪ من الناس. ٤٠٪ منهم انتخب لوائح السلطة. كل هذه كانت إشارات لم تتعظ السلطة منها كما أنها لم تتعظ مما حصل من حولها من دول ثار أهلها على حكامهم.
أما الأسباب المباشرة التي أدت لانفجار الشارع في هذه اللحظة فتختصر بحادثتين: الأولى تكمن بالحرائق التي شبت في مناطق عدة من ١٤-16 تشرين الأول. حيث فشلت الدولة في إطفائها، وإنما خمد معظمها بسبب هطول الأمطار. أما السبب الثاني فهو إقرار ضرائب جديدة نهار الخميس ١٧ تشرين الأول أي بعد يوم واحد من إخماد الحرائق. فبالرغم من أن الشارع أصبح بمثابة بركان ينتظر شعلة للانفجار، لم تأبه الحكومة لذلك وخرجت مقرراتها نهار الخميس لتعلن ضرائب جديدة منها ما يتعلق بضريبة على المكالمات من خلال الإنترنت ومنها مكالمات "الواتسآب" وأخرى زيادة نسبة ضريبة على القيمة المضافة لتصبح ١٥٪ في سنة ٢٠٢٢.
بداية التحركات كانت بأعداد قليلة في ساحة رياض الصلح أمام السراي الحكومي وأيضاً في منطقة الغبيري في الضاحية الجنوبية لبيروت. ثم تعاظمت بشكل كبير على كافة مساحة لبنان. تراجعت الحكومة عن قراراتها الأخيرة لكن البركان انفجر ليعلن الناس أمرا واحدا بالإجماع: لا ثقة بالوسط السياسي في لبنان.
عرض رئيس الوزراء سعد الحريري ورقته الإصلاحية فأسقطها الشارع. وخرج زعيم حزب إيران اللبناني مرتين؛ الأولى أعلن فيها أن الحكومة حكومته وممنوع إسقاطها، والثانية اتهم فيها الحراك أنه ممول من الخارج. كل الأحزاب حاولت ركوب الحراك واختراقه إلاأنهم جميعهم فشلوا. فحزب إيران حاول اختراق الحراك عن طريق مهاجمة المصارف وحين فشل حكم عليه بالعمالة للخارج. أما سعد الحريري فحاول إعطاء صورة أنه يتبنى مطالب الحراك في إعلانه أنه مع إجراء انتخابات نيابية مبكرة ولكن الناس بقيت تطالبه بالاستقالة.
إلاأن حقيقة الحراك عبر عنه الوزير جبران باسيل في تسريب من إحدى مجموعات الدردشة حيث وصف الحراك بالزلزال الذي يمكن أن يدمرهم جميعا.
أما الدول الكبرى فلقد أعلن البنتاغون والخارجية الأمريكية أنهم يتابعون عن كثب الحراك في لبنان. وحتى هذه اللحظة لم يخرج كلام رسمي من أمريكا. إلاأن السفيرة الأمريكية ومعها سفراء الاتحاد الأوروبي وفرنسا وبريطانيا أعلنوا دعمهم للورقة "الإصلاحية" التي أعلن عنها الحريري. مما يؤكد تمسك الدول الكبرى بالحكومة الحالية.
السلطة بأعمدتها الأربعة: تيار سعد الحريري وحزب إيران وتيار رئيس الجمهورية وحركة أمل التابعة لرئيس النواب، جميعهم موحدون ضد الناس. فالسلطة حاليا هي بكباش مع أهل البلد، وخياراتها تترواح بين استقالة أو تعديل في الحكومة أو حتى استقالة النواب ومعهم رئيس الجمهورية لتصل إلى حد أقصى إعلان حالة الطوارئ ونشر الجيش. إلا أن السلطة لا تريد التنازل لإرادة الناس وترفض الاستقالة.
أزمة لبنان عميقة جداً وهي كما أسلفنا تراكمات عقود من انعدام الرعاية. إن هذا الحراك هو حراك عفوي لا تقف وراءه دول ولا يحركه حزب أو حركة سياسية. الحراك هو امتداد لثورات الربيع العربي. هو تمرد على الاستعمار وأزلامه بل تمرد على النظام الرأسمالي وإن كانت هذه الخاصية لا يعلمها عامة الناس.
والحل في لبنان كما في أي بلد آخر يكمن في نبذ الفكر الغربي العلماني والإطاحة بعملائه المحليين وإرساء قواعد سياسية واقتصادية واجتماعية مبنية على عقيدة صحيحة: عقيدة لا إلهإلا الله محمد رسول الله. فأنظمة المجتمع في الإسلام كفيلة بحل مشاكل الإنسان بغض النظر عن جنسه ومعتقده.
بقلم: الأستاذ عبد اللطيف داعوق
نائب رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية لبنان
رأيك في الموضوع